المشاركات

حدائق السجن

صورة
بينما أقرأ "وجبة المساء" لأندريه ميكيل إذ توقفت في كتابه الذي دوّن فيه يوميات السجن عند سطرٍ يبدي فيه أسفه على عدم حفظ الكثير من الأشعار. كان المستعرب الفرنسي قد سُجِن ظلماً في القاهرة بتهمة التجسس، مطلع الستينات إبان القطيعة المصرية الفرنسية بسبب حرب استقلال الجزائر. لا أقرأ أدب السجون في العادة، ربما لأنني قرأت منه ما يكفي، أو ربما للسبب نفسه الذي يمنعني من مشاهدة أفلام الرعب؛ لأحمي مناماتي إذ طالما حاولت عبثاً أن أتقدم على اللاوعي بخطوة حتى أقطع الطريق على الكوابيس. أميل إلى أدب الهروب لو وجد مثل هذا الأدب. الهروب من السجن مثلما فعل الكونت مونت كريستو أو أي هروب آخر، وإن لم أعد حالماً منذ زمن فالهرب اليوم لا يعدو أكثر من فكرة سينمائية. أعادني ذلك السطر الذي يتحسر على قلة المحفوظات الشعرية إلى رواية لإري دي لوكا كنت قرأتها قبل سنتين. كان البطل ممتناً لقصائد دانتي التي أُرغِم على حفظها في المدرسة إذ ستظهر منفعتها العظيمة لاحقاً حين يُزجّ في السجن فيدرك حاجته إلى التمارين اللغوية قبل الرياضية. خطر في بالي حينئذ أن حفظ القصائد ادخار عظيم على المديين القصير والطويل. الخطة الأسا

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

  في التاسعة من عمري أو ربما في العاشرة دخلت أول متحفٍ في حياتي، ولم يكن ذلك المتحف سوى صالة أفراح. كانت صالات الأعراس -وماتزال- تتألف من قاعتين متجاورتين: الأولى للرجال حيث يسود الوجوم والضجر فيقاطعهما بين الحين والآخر سلامٌ حار أو ضحكة عابرة، والقاعة الثانية للنساء حيث تعج الأهازيج والزغاريد والضحكات. وكانت الجدران عديمة الرحمة تقف بين القاعتين مثل عذول، وكان الفرح يعبرها مع ذلك حتى يصلنا صدى رفيف الفراشات.  وما كان الولد الذي كنته ليعبأ بمصير البشرية كلها حتى يعبأ بأمر العروس والعريس وليلتهما الكبيرة، وهل سينجحان في تدمير بعضهما البعض ما إن يطلع الغد أم يكتفيان ببعض الحب وبعض النكد؟ تزعم أم كلثوم أنه من ده وده الحب كده. وأحسب أن القانون في كل دول العالم يكفل لكل امرئ حق التنكيد على شريكه. وإن لم يكفل في الوقت نفسه حق كل شخص في أن يحظى بإنسان واحد على الأقل يراه أفضل الناس أو أجملهم. على كل حال، ما كان يعني ذلك الولد من الزواج غير المشروبات الغازية المحرمة في البيت، فإذا انتهى العشاء دسّ الولد منا في جيبيه علبة بيبسي وعلبة ميراندا وسار بأورامه الجانبية السائلة يخادع الكبار كما يظن في

ما يراه عزت القمحاوي

صورة
لا ينتبه أكثرنا حين تسقط ورقة من شجرة، وهو أمر لا يستغرق أكثر من بضع ثوان، فإذا انتبه أحدنا قال إنه الخريف. أما القمحاوي عزت فلا يرى الورقة أو تبدل الفصول إنما يرى البذرة فالجذور فالجذع حتى يكاد يلمس براحته اللحاء الخشن، فالنسغ فالأوراق، ولربما لمح بينها بارون ايتالو كالفينو أو هلال رينيه ماغريت، فالندى فالأزهار فالظلال تحرس خلوة عاشقَين أو قيلولة هارب، فالغابة، فالفأس أو الحرائق ولربما تناهت إلى سمعه أثناء ذلك فصول فيفالدي الأربعة. فإذا لم تسقط على الرصيف ورقة من شجرة، أو كان الشارع بلا أشجار، سقطت من المارة نظرة كابية مثل حصاة صغيرة، أو تأتأة ساقٍ تجاهد لتتقدم خطوةً أخرى، أو رعشة خفية لسماع سارينة الشرطة من بعيد. يرى القمحاوي عندئذ ذلك الحصى الخفيّ يتكوم على الأرض شيئاً فشيئاً آخذاً في الارتفاع حتى يصنع تمثالاً للطاغية. يتبع بعينيه التمثال إذ راح يسير متثاقلاً إلى الميدان ليقف رافعاً يده الحجرية في تلويحة هي أقرب إلى التهديد منها إلى التحية ليخطب طوال ثلاثين سنة في الناس والشمس والهواء والنجوم والطيور التي تتخذه مرحاضاً. لئن كان سامي يعقوب -أحد أبطال القمحاوي- يسبق الغيب بخطوة فيرى ا

طريق الدمام - الرياض السريع

صورة
لو كان لحياتي طريق لما كان غير طريق الدمام الرياض السريع. قطعتهُ أول مرة وأنا في ظهر الغيب، ثم في ظهر أبي، فبطن أمي، فيديها، فالكرسي الخلفي، فالأمامي، فكرسي السائق. قطعتهُ خاطراً، وأملاً، وجنيناً، وطفلاً، ورجلاً. يبلغ طوله قرابة الأربعمائة كيلومتر، وإن كان لا ينتهي في العاصمة إذ يمضي بعدها الطريق رقم ٤٠ حوالي ألف كيلومتر فيجتاب الفلاة بعد الفلاة ويشج الآكام حتى يقطع المملكة بالعرض واصلاً شرقها بغربها. ثلاث مسارات في كل اتجاه، رُصِفت بالحصى والإسفلت وأغاني محمد عبده، يخاصرها السياج واللوائح الكيلومترية الزرقاء وكاميرات السرعة. أسافر مع عمود الصبح -وعمود الصبح أول نورٍ من الفجر- فالطريق في النهار غير الطريق في الليل إذ لطالما وحّد الظلامُ الطرقَ وفرّقها النور. أملأ سيارتي بالوقود في الليل ولو كانت ناقة لمنعتها الماء بضعة أيام كما كانت تفعل العرب ثم أطلقتها لترِد من شدة العطش ما يعينها على مسيرة أربع ليال إذ لن تشرب بعدها إلا من عين آثال في صحراء الدهناء. أقطع بسيارتي الطريق في ثلاث ساعات فلا أتوقف أبداً امتثالاً للحكمة التي تقول إن: "المسافر عليل ودواه السفر". كنت في العاشرة حي

جُحر كارول

صورة
  حين زرت برايتون أول مرة سألني سائق التاكسي الانجليزي ما إذا كنت أعرف تشارلز دوجسون، ولما نفيتُ بحركةٍ من رأسي قال وماذا عن لويس كارول؟ فاندفعت قائلاً أعرفه بالطبع. أشار عندئذٍ بيده إلى إحدى الشقق العلوية البيضاء ليخبرني أن دوجسون أستاذ الرياضيات في أوكسفورد أو كارول كاتب قصص الأطفال كان يقضي الصيف هنا. كان دوجسون قساً وكاتباً وسياسياً وشاعراً ومخترعاً وعالم رياضيات. وإذا كان الزمن قد طمس كل ذلك متعمداً أو عن غير عمد فإنه لم يطمس حتى الآن اختراع كارول الأشهر "أليس في بلاد العجائب". بحثت في غوغل -وغوغل عميلٌ مزدوج- فوجدتُ إعلاناً قديماً لبيع الشقة التي أقام فيها كارول. كان مالكها يطلب أكثر من ثلاثة ملايين جنيه استرليني في البيت الذي يقال إن كارول كتب فيه مخطوطة أليس. ثم قرأت خبراً عن بيع الشقة فيما بعد بسعر أقل من ذلك بكثير. أرجو ألا يكون المشتري أحد الكتّاب الجدد. قرأت في موقعٍ آخر أن لويس كارول كان يقضي وقته في الحديقة المقابلة. ثمة نفق سري في الحديقة يقود إلى البحر وهو على الأرجح ما ألهمه بفكرة جحر الأرنب. مضيت بعدها أبحث في البيت وأدور حوله حتى وجدت اللافتة البيضاء التي ت

ليلى وغادة..

صورة
كانت ليلى في الخامسة من عمرها تسمّي اليوم "أمس" أما غادة التي تصغرها بسنتين فتسمّي اليوم "بكره". هل تعجلت ليلى فتدافعت نحو المستقبل أم تريثت غادة وراحت توازن خطوتها؟ بدت الصغرى في عين الأب أكثر فطنةً وحذراً من الكبرى وهي تدخر منذ الطفولة أغلب اليوم فلا تقتات منه إلا القليل، في الوقت الذي أضاعت فيه ليلى يوماً ثميناً من عمرها وصار لزاماً عليها أن تبحث عن اليوم المفقود كل صباح. لو أن أحداً سرقه منها لخرج أبوها وقتله وعاد يحمل يومها على كتفه. سيغسله أولاً حتى تذهب عنه دماء السارق ثم يعيده إليها مؤكداً أن تحفظه جيداً هذه المرة. أما إذا كانت قد وهبته من نفسها فقد وهب جدّها من قبل قطعة أرض لأحد الأقارب وعاش طيلة حياته لا يملك بيتاً أو حتى قطعة أرض.  لو ظلتا متحابتين كما هو الحال الآن فلا بد أن غادة ستقاسمها ساعات اليوم حتى آخر عمرها كما تقاسمها ليلى الشطائر والحلويات. كان الأب قد سألهما يوماً أن تمنحانه بعضاً من حبات الفشار فملأت كل منهما راحتها الصغيرة بطيبة نفس. ولما قارب الفشار على الانتهاء -والمرء يمنح في السعة لكنه يتردد عند الضيق، ولهذا يسبق الدرهم ألف درهم- قال أبوه

اغتيالات..

صورة
  لا يُسمح في بريطانيا بالدخول إلى متجر الأسلحة أو الخمور أو الألعاب الجنسية قبل بلوغ السنّ القانونية، وقد بلغتها منذ زمن بعيد، بل بلغتها مرتين قبل أربع سنوات. نظرياً يمكنني الدخول إلى متجرين في الوقت نفسه لو استطعت تقسيم جسمي. سيكون حاصل القسمة عندئذ شابّين طائشين في الثامنة عشرة من العمر، وطفل صغير ابن أربعة أعوام. آمل حينها ألا يدخل الشابان إلى هذه المتاجر، أو على الأقل ألا يدخلا معاً وينسيان الطفل في الخارج فيخطفه أحدهم أو يضيع. أضحكتني الفكرة وذكرتني بضرورة أن يبقى المرء واحداً فهو بذلك يحافظ بالكاد على نفسه. كنت قد خرجت في جولتي اليومية فمررت بتلك المتاجر الثلاثة وظللت أمشي اليوم بطوله تقريبا. ولما عدت كان الليل قد تقدم فوقفت في البلكون أتأمل العمارة البعيدة وأنوارها التي راحت تنطفئ شيئا فشيئا. لمحت في إحدى النوافذ خيال رجل يحمل حقيبة على كتفه، وخمنت أنه يتهيأ للرحيل في هذه الساعة المتأخرة تجنباً لمواجهة رفيقته التي تنام الآن. ربما كتب رسالة يقول فيها "انتهى كل شيء" أو "سئمتُ كل شيء". لا بد لرسائل الرحيل من صيغ قاطعة كهذه. وربما يضيف سطراً حتى لا يحمل الذنب كل