المشاركات

نزهة مع الحوائط

صورة
  -١- طوبٌ متجاورٌ أو حجرٌ مصفوفٌ أو قالبٌ من الخرسانة ويكون الحائط. لا بد أولاً من حفر الأرض حتى نمُد جذور الحائط في التراب. كل ما يخترعه الإنسان في النهاية إنما يقتبسه من الطبيعة أو يحاكيها. ألا ترونه يرشّ الحوائط بالماء بعد الملاط كأنه يسقيها. حائط وحيد: سور، أو ظَهرُ حبيبٍ غضبان ما عاد احتضانه من الخلف آمنا. لو تعانقا لاندلع ماسٌ كهربائي. يبتعد الحبيب فتنمو على كتفيه الناعمتين لفائف الأسلاك الشائكة. تلتمع شفراتها مهددةً راحة اليد. متى صار غريبًا؟ لقد وقف قبالة الحائط في صباه. كان ذلك أول عقابٍ مدرسي؛ الوجه إلى الحائط. أكان ذلك في السنة الثانية أم في السنة الثالثة؟ يحاول أن يتذكر فلا تفلح الإغماضة ولا التقطيبة ولا الكزّ على الأسنان في تذكيره سوى بالشرخ الصغير في ذلك الحائط الأصفر. كبُر وتدرّج في العقاب والألم. من الوقوف إلى الحائط، فالوقوف على ساقٍ واحدة ورفع اليدين، حتى الضرب بالعصا. لقد احتملها بشجاعةٍ بل باستهتار لكنه لا يحتمل أن يمضي بعيدًا ذلك الظهر الغضبان. -٢- من منّا لم يلعب الكرة مع حائط بيتٍ مهجور؟ من يتذكر القارورة في ركنه الأيسر؟ لا يكاد يخلو منها حائط قديم. كلما كسر...

وتلفّتَتْ عيني..

صورة
  وُلِدتُ في الرياض. أمضيت طفولتي فيها وفي الدمام. قضيت سنوات الشباب في بلاد الشام. قضيت بعد ذلك سنوات في إنجلترا. لكنني عشت عمري أكثره في الدمام. إنها المدينة الوحيدة التي لي فيها صندوق بريد وأب ميت أخذني إلى البحر ليعلمني في طفولتي السباحة كما يعلم الحوت صغيره. ألقاني في الماء كما كان يفعل آباء ذلك الزمن فكدت أغرق. كان أبي يمضي بعيداً في لُجّة البحر حتى لا يُرى من الساحل. كم تخيلته يغرق في صباي، لكنه ظل يعود في كل مرة من قاع البحر. تعلمت من السباحة ما لا يجعلني أغرق، أو ما يجعلني أظن ذلك. كلما ركبت الطائرة اليوم وعبرت بحرا أو محيطا ارتعشت في مقعدي. هنالك ظن النفس بالنفس واقع كما يقول الشاعر. علمني أيضاً ألا أضيع في اليابسة. أن أنظر إلى النجوم فإذا غامت السماء أنظر إلى الرمال فأرى أين تجمعها الريح خلف الشجيرات لأعرف اتجاهي. علمني طول البال الذي يجب أن يتمتع به الصياد والطريدة على حد سواء. علمني أن أبقي باب البيت مفتوحا حتى لا يتردد العابر أو الغريب في الدخول. علمني أن الكرم إنما يكون في النفس قبل اليد، والوجه قبل المجلس، والحديث قبل الطعام. تعلمت تقريبا كل شيء في الدمام وأضعت هناك...

عن الخيال: أول ألعاب الطفولة.

صورة
  نمت مبكرا قبل رأس السنة. شددت اللحاف فلم يظهر مني إلا ما يظهر من رأس التمساح في النهر. أقفلت الباب خوفاً من اللصوص، والشبّاك خوفاً من الإنفلونزا، والأنوار خوفاً من فاتورة الكهرباء، والفرن خوفاً من الغاز، وعينيّ خوفاً من مخاوف جديدة. زرت قبلها أمي، رأس الحياة نفسها. قلت ممازحاً ألا تستطيعين يا أمي أن تتذكري عنوان أمارا؟ قالت دعني أتذكر أولاً من تكون أمارا. قلت مُربّيتي التايلندية. أريد أن أرسل لها هدية بمناسبة السنة الجديدة. ضحكت أمي -وما سألتها إلا لتضحك- قالت من تظن نفسك؟ لقد جاءت لتساعدني في أعمال المنزل حينما مرضت ولم تقم معنا أكثر من شهرين. كانت العاملة الوحيدة التي جاءتنا بحقيبة كبيرة ليس فيها غير المكياج. لم تخدم في البيوت من قبل، إنما جاءت لتجمع ثمن التذكرة إلى أمريكا لتشارك في مسابقات الجمال. لقد كانت مربيتي ملكة جمال إذاَ. غضبت أمي هذه المرة، وسخرت قائلة: صحيح لكنها لم تكن مربية فحسب بل لقد أنجبتك أيضا وتركتك عندنا. ضحكتُ هنا بصوت عال وتذكرت قدرتي اللئيمة على تحوير القصص بتعديل صغير في الشخصيات والأحداث يجعلها تختلف تماما عن أصلها. ما يزال ابن خالي يمتعض من افتراءاتي الق...

حدائق السجن

صورة
بينما أقرأ "وجبة المساء" لأندريه ميكيل إذ توقفت في كتابه الذي دوّن فيه يوميات السجن عند سطرٍ يبدي فيه أسفه على عدم حفظ الكثير من الأشعار. كان المستعرب الفرنسي قد سُجِن ظلماً في القاهرة بتهمة التجسس، مطلع الستينات إبان القطيعة المصرية الفرنسية بسبب حرب استقلال الجزائر. لا أقرأ أدب السجون في العادة، ربما لأنني قرأت منه ما يكفي، أو ربما للسبب نفسه الذي يمنعني من مشاهدة أفلام الرعب؛ لأحمي مناماتي إذ طالما حاولت عبثاً أن أتقدم على اللاوعي بخطوة حتى أقطع الطريق على الكوابيس. أميل إلى أدب الهروب لو وجد مثل هذا الأدب. الهروب من السجن مثلما فعل الكونت مونت كريستو أو أي هروب آخر، وإن لم أعد حالماً منذ زمن فالهرب اليوم لا يعدو أكثر من فكرة سينمائية. أعادني ذلك السطر الذي يتحسر على قلة المحفوظات الشعرية إلى رواية لإري دي لوكا كنت قرأتها قبل سنتين. كان البطل ممتناً لقصائد دانتي التي أُرغِم على حفظها في المدرسة إذ ستظهر منفعتها العظيمة لاحقاً حين يُزجّ في السجن فيدرك حاجته إلى التمارين اللغوية قبل الرياضية. خطر في بالي حينئذ أن حفظ القصائد ادخار عظيم على المديين القصير والطويل. الخطة الأسا...

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

  في التاسعة من عمري أو ربما في العاشرة دخلت أول متحفٍ في حياتي، ولم يكن ذلك المتحف سوى صالة أفراح. كانت صالات الأعراس -وماتزال- تتألف من قاعتين متجاورتين: الأولى للرجال حيث يسود الوجوم والضجر فيقاطعهما بين الحين والآخر سلامٌ حار أو ضحكة عابرة، والقاعة الثانية للنساء حيث تعج الأهازيج والزغاريد والضحكات. وكانت الجدران عديمة الرحمة تقف بين القاعتين مثل عذول، وكان الفرح يعبرها مع ذلك حتى يصلنا صدى رفيف الفراشات.  وما كان الولد الذي كنته ليعبأ بمصير البشرية كلها حتى يعبأ بأمر العروس والعريس وليلتهما الكبيرة، وهل سينجحان في تدمير بعضهما البعض ما إن يطلع الغد أم يكتفيان ببعض الحب وبعض النكد؟ تزعم أم كلثوم أنه من ده وده الحب كده. وأحسب أن القانون في كل دول العالم يكفل لكل امرئ حق التنكيد على شريكه. وإن لم يكفل في الوقت نفسه حق كل شخص في أن يحظى بإنسان واحد على الأقل يراه أفضل الناس أو أجملهم. على كل حال، ما كان يعني ذلك الولد من الزواج غير المشروبات الغازية المحرمة في البيت، فإذا انتهى العشاء دسّ الولد منا في جيبيه علبة بيبسي وعلبة ميراندا وسار بأورامه الجانبية السائلة يخادع الكبار ك...

ما يراه عزت القمحاوي

صورة
لا ينتبه أكثرنا حين تسقط ورقة من شجرة، وهو أمر لا يستغرق أكثر من بضع ثوان، فإذا انتبه أحدنا قال إنه الخريف. أما القمحاوي عزت فلا يرى الورقة أو تبدل الفصول إنما يرى البذرة فالجذور فالجذع حتى يكاد يلمس براحته اللحاء الخشن، فالنسغ فالأوراق، ولربما لمح بينها بارون ايتالو كالفينو أو هلال رينيه ماغريت، فالندى فالأزهار فالظلال تحرس خلوة عاشقَين أو قيلولة هارب، فالغابة، فالفأس أو الحرائق ولربما تناهت إلى سمعه أثناء ذلك فصول فيفالدي الأربعة. فإذا لم تسقط على الرصيف ورقة من شجرة، أو كان الشارع بلا أشجار، سقطت من المارة نظرة كابية مثل حصاة صغيرة، أو تأتأة ساقٍ تجاهد لتتقدم خطوةً أخرى، أو رعشة خفية لسماع سارينة الشرطة من بعيد. يرى القمحاوي عندئذ ذلك الحصى الخفيّ يتكوم على الأرض شيئاً فشيئاً آخذاً في الارتفاع حتى يصنع تمثالاً للطاغية. يتبع بعينيه التمثال إذ راح يسير متثاقلاً إلى الميدان ليقف رافعاً يده الحجرية في تلويحة هي أقرب إلى التهديد منها إلى التحية ليخطب طوال ثلاثين سنة في الناس والشمس والهواء والنجوم والطيور التي تتخذه مرحاضاً. لئن كان سامي يعقوب -أحد أبطال القمحاوي- يسبق الغيب بخطوة فيرى ا...

طريق الدمام - الرياض السريع

صورة
لو كان لحياتي طريق لما كان غير طريق الدمام الرياض السريع. قطعتهُ أول مرة وأنا في ظهر الغيب، ثم في ظهر أبي، فبطن أمي، فيديها، فالكرسي الخلفي، فالأمامي، فكرسي السائق. قطعتهُ خاطراً، وأملاً، وجنيناً، وطفلاً، ورجلاً. يبلغ طوله قرابة الأربعمائة كيلومتر، وإن كان لا ينتهي في العاصمة إذ يمضي بعدها الطريق رقم ٤٠ حوالي ألف كيلومتر فيجتاب الفلاة بعد الفلاة ويشج الآكام حتى يقطع المملكة بالعرض واصلاً شرقها بغربها. ثلاث مسارات في كل اتجاه، رُصِفت بالحصى والإسفلت وأغاني محمد عبده، يخاصرها السياج واللوائح الكيلومترية الزرقاء وكاميرات السرعة. أسافر مع عمود الصبح -وعمود الصبح أول نورٍ من الفجر- فالطريق في النهار غير الطريق في الليل إذ لطالما وحّد الظلامُ الطرقَ وفرّقها النور. أملأ سيارتي بالوقود في الليل ولو كانت ناقة لمنعتها الماء بضعة أيام كما كانت تفعل العرب ثم أطلقتها لترِد من شدة العطش ما يعينها على مسيرة أربع ليال إذ لن تشرب بعدها إلا من عين آثال في صحراء الدهناء. أقطع بسيارتي الطريق في ثلاث ساعات فلا أتوقف أبداً امتثالاً للحكمة التي تقول إن: "المسافر عليل ودواه السفر". كنت في العاشرة حي...