الكلام بصوتٍ خافت
غمزة
الغمزة برقية إعجاب عاجلة. تُقرأ بلا كلمات وتُحرق في الوقت نفسه مثلما تُحرق الرسائل التي تهدد حياة حاملها.
نبضة كهربائية تصعد من القلب إلى العين ثم إلى العين المقابلة لتنحدر في القلب فينبض مرتين. مزيجٌ من رمية حرة لكرة سلة وسقوط طفل من السطح إلى شبكة الإنقاذ التي يمسكها الجيران.
والغمزة لا تُردّ بالغمزة! إنما يفعلها المهربون بكشافاتهم على متن زورقين سريعين في عرض البحر، أو بأنوار شاحنتين رابضتين في شارع جانبي معتم. لكنها تُردّ برعشة صغيرة في زاوية الفم. لو فُحِصت بالمجهر لرأينا الضحكة الواسعة وسمعناها أيضا.
تلويحة
عناقٌ ثم نظراتٌ دامعة ثم تنطلق صافرة الرحيل. تتشبث المرأة بالرجل وتستبقيه قليلاً، وحين يتململ تفلته فيركض للحاق بالقطار أو الباخرة. يركب في اللحظة الأخيرة وحين يلتفت يجدها تلوِّح بيدها فيردّ التلويحة ويغيب سريعاً في الزحام. تلوّح عندئذ بشدّة فلا يلتفت الرجل كما لا يلتفت القطار أو الباخرة، وبعد دقائق تهوي يد المرأة وتبقى التلويحة في الهواء.
في الضباب يمكن أن نقصّ أثر اليد من تلويحاتها المعلقة مثلما نقص أثر الأقدام على الأرض.
التلويحة محركٌ ضد أربعة محركات لطائرة جامبو. محركٌ لا يستطيع الدوران أكثر من ربع دورة. محاولة أخيرة لا لمنع المسافر من الرحيل، بل لمنع الطائرة من السفر. كل تلويحة طائر غير مرئي. وإذا كانت الطيور تشكل خطراً على الملاحة الجوية حتى إن البشر يحاربونها عند مدارج الإقلاع بالموجات فوق الصوتية، فلا بد أن التلويحات أيضاً تشكل الخطر نفسه. لو وقف ذوو المسافرين في المطار ولوحوا في وقتٍ واحد لربما تمكن سرب التلويحات من تعطيل الطائرة.
واليد تلوّح لصاحبها في بعض الأحيان. تلوّح عندما ترتعش، وتلوّح عندما تقطعها الغرغرينا أو الحرب.
لمحة
في مكانٍ ما بين النظرة والإغماضة تقع اللمحة. زاوية شبه عمياء. حدقة وضباب وشيء ثالث قبل أن نتبينه ينتشر الظلام.
انطباعٌ أول للعين. سكتش بصري سريع. لقطة مبدئية تأخذها العين على عجالة مثل كاميرا متحركة تلتقط صورة مهزوزة. لا تتكرر اللمحة لأنها حصيلة أكثر من مصادفة في الوقت نفسه.
واللمحة على طزاجتها ليست من الحاضر إذ تتبدى فيها الأخيلة والطيوف حتى نكاد نلمح فيها وجوه الراحلين.
حين نلتفت في الغالب نستجيب إلى نداء ليس مسموعاً بالضرورة، فالتفاتنا أكثر ما يكون إلى نداءات خفيةٍ تصدر من مجهولٍ أو من ذواتنا. نلتفت إلى الوراء حتى نرى، أو خوفاً من أن نرى.
نلتفت بالغريزة كما يلتفت الأطفال إلى زجاجة السيارة الخلفية -مرصد الزوال البطيء- حتى يُجلِسهم الكبار في أحضانهم أو تُجلِسهم الحياة في المقاعد الأمامية. نترجل فنلتفت لنقطع الشارع في حذر، أو بحثاً عن مَعلَمٍ شهير أو وجهٍ عزيزٍ يعصمنا من الضياع ويمد لأقدامنا الطريق، أو لنربح يانصيب الالتفات حين نلتفت إلى من نحب ويلتفت إلينا في الوقت نفسه، فيندلع النسيم من تلك الالتفاتتين المتزامنتين. ولقد نلتفت إلى الخلف لنقيس المسافة حينما نشرع في الرحيل أو الهرب. وإن كنا نلتفت أكثر ما نلتفت في المحطات والمطارات والمقابر على أمل أن نحظى مرةً أخرى بنظرةٍ أخيرة.
تبدو الالتفاتة من الخارج مثل مفترق طرق. الرأس في جهة، والجسد في جهةٍ أخرى. يغدو الملتفت في نزاعه البديع جديراً بالرسم أو النحت، وإن كان بالتعاطف أجدر، ففي تلك النطحة الهوائية احتجاجٌ بدائي على اختلاف المكان أو الزمان أو الاثنين معا.
الالتفاتة لكزةٌ في خاصرة الوراء ليسرع في المشي إلى الأمام. محاولة عابثة لطيّ الجهات كلها في نظرةٍ واحدة. اشتباك بالأيدي بين العين والأفق والماضي. تحديقٌ طويلٌ طويلٌ إلى ما يُرى بوضوح تام وإن لم يعُد هناك.
تعليقات
إرسال تعليق