رحلة إلى البنكرياس ـ خوان خوسيه مياس





لطالما تلقيت من الطوائف الدينية التي باتت تتكاثر مثل المشروم، دعواتٍ لحضور اجتماعاتها بعد أن تداعت منزلة الأديان وسلطتها. لم أتمكن من تخمين الطريقة التي كانوا يتوصلون بها إلى عنواني البريدي، حتى ذاعت فضيحة بيع القوائم البريدية. وبدافعٍ من الفضول قررت الذهاب إلى إحدى هذه اللقاءات. وصلت متأخراً، فجلست برصانةٍ في المؤخرة، واستمعت إلى الواعظ الذي كان ينتقد بقسوة أولئك الذين يهدرون أموالهم في السفر إلى البلدان الأجنبية، بينما لا يعرفون شيئاً عن البنكرياس والقلب والأمعاء. كان يتسائل وهو يغلي : " لماذا أرغب في السفر إلى أفريقيا إذا كنتُ لم أقم بزيارة كبدي ولو لمرةٍ واحدة ". 

وبالنظر إلى وجوه المستمعين وتعابيرهم، فقد كان يجادل بطريقةٍ عقلانية ومؤثرة. ثم سألت نفسي ما الذي يضمن أن يتفوق منظر الغروب في أفريقيا على جمال مغصٍ في القولون؟ تخيلت لوهلة أني نفذت إلى المرارة وهي تفرز العصارة الصفراوية وقد بدا المنظر أكثر إبداعاً من شلالات نياغارا. ولكن يبقى السؤال كيف نحجز رحلةً إلى البنكرياس حيث لا حاجة إلى التذاكر أو جواز السفر.  

أجاب الواعظ على الفور، وطلب منّا أن نسترخي، ونتنفس بعمق، ثم نتخيل أنفسنا ونحن نغادر أجسادنا لوهلة ثم نعود إليها عبر الفم أو فتحات الأنف. كنت أفضّل الدخول من فتحات الأنف، وذلك لأن الفم يبدو بالنسبة لي مألوفاً، ولكن نزلة البرد التي ألمّت بي مؤخراً جعلتني أكابد في طريقي التهابات الأغشية. لم أجد صعوبات أخرى في الوصول إلى الجنجرة، فانحدرت بحذرٍ عبر القصبة الهوائية ممسكاً بحواف حلقاتها الغضروفية كما لو كانت درجات سلّم. كانت الظلمة أسفل الأنبوب العضوي تعيق حركتي فاستعنتُ بمصباحٍ خيالي أخرجتهُ من جيبي عملاً بنصيحة المتحدث، وشاهدت اسطوانتين اتضح أنهما تنتهيان عند الشعب الهوائية. فسلكتُ القصبة اليمنى التي كانت مصابةً بالتهابٍ مزمن وسقطتُ بداخل الرئة. كان المكان مليئاً بالتجاويف والأغشية حيث تيارات الهواء القوية. عُدتُ عبر الطريق نفسه خشيةً من تفاقم الانفلونزا. وعندما صعدت القصبة الهوائية بمساعدة الحلقات الغضروفية فقدت مصباحي. لم يُحدِث سقوطه في أعماقي أي صوتٍ يرشدني إلى تحديد موقعه. 

نزلتُ في الظلمة أتلمسُ السطح كالأعمى فلم أعثر على المصباح. وفي هذه الأثناء قام أحد الفايروسات بعضّ يدي اليمنى، وحاول آخرٌ أن يجذبني إلى مكانٍ تُسمع فيه ضرباتٌ عنيفة، يبدو أنهم يقومون بأمرٍ ما. سرعان ما اكتشفت بأني أقف بالقرب من حجاب الصدر وبأن القلب يستقر في تلك الفجوة. لم أعثر على المصباح ونال مني اليأس فتخليتُ عنه وعدت أدراجي أتسلق كالأعمى وبعد آلاف المحاولات المضنية صرت في الفم. فتحتُ عيناي وعُدتُ إلى الواقع. كان قلبي ينبض بشدة على الرغم من برودة الغرفة. كنت مبللاً بالعرق، لقد كانت مغامرةً أكبر بكثير من السفر عبر غابات الأمازون.

وعندما رجعتُ إلى حالتي الطبيعية، نظرتُ حولي فوجدت بقية المستمعين - بعيونٍ مغمضة - لا يزالون في استرخاءٍ تام. كانوا يواصلون بهدوء رحلتهم إلى البنكرياس. الرب وحده يعلم أيّ تجاربٍ كانت في انتظارهم. كان المتحدث - الذي توقفت عن الإنصات إليه عندما كنت أتمسك بالحلقة الغضروفية الخامسة للقصبة الهوائية، ربما لحداثة التجربة - لا يزال يواصل حديثه بنبرةٍ موزونةٍ ومقنعة. كان كل شيء بالنسبة له يمكن تخيّله. مَن تعلّم أن يتخيل باطن جسده بتلك الآليات التي سبق شرحها في لقاءاتٍ أخرى بمقدوره رؤية تشكلات الشجر، والشلالات الخضراء، وحُفر القمر، والنجوم، والمذنبات، والكواكب، لأن الجسد في الأساس هو خلاصة الكون. كان يوصينا بالتجول ببطء حتى يتسنى لنا الاستمتاع بمشاهدة الإفرازات، والأعضاء الحيوية، والسوائل، كما يوصينا بضرورة التوقف في لبّ الأعضاء التي تشتكي من المرض وذلك لمعالجتها بتقنيات التخيّل. عندما تصاب بقرحةٍ في المعدة مثلاً، عليك أن تتخيلها سليمةً تماماً، ومن ثم تتصور بأن القرحة تقدم العون للمعدة. بطبيعة الحال لا يمكنك تحقيق ذلك في جلسةٍ واحدة أو حتى جلستين، بل عليك المواظبة على التمارين حتى تغدو النتائج أفضل من تلك التي يمكن الحصول عليها بواسطة التدخل الجراحي وبتكلفةٍ أقل.

وبعد فترة بدأ المسافرون في العودة، وأخذوا يتحدثون عن عجائب البنكرياس، وعن شلالات العصائر التي تتدفق إلى المعدة لتساهم في عملية الهضم. في النهاية لم يلفت نظرهم الكبد ربما بسبب شكله الشاذ، وإلا فالجميع يتفق على اسثنائية وروعة جداول العصارات الصفراء التي تغطي الكبد. لاحظنا في تلك اللحظة أن أحد المستمعين كان مستلقياً. توجه إليه المتحدث وقام بفحصه ثم أعلن بأن ذلك الرجل قد تاه في منطقةٍ ما من أمعاءهِ الغليظة ولم يستطع الخروج. داهمنا القلق جميعاً، وغادرت عندما كان المتحدث يقول بأنه يحاول مساعدة الرجل للخروج عبر المستقيم.

في الأيام الماضية، شعرت بألمٍ فظيع في الرئة اليمنى كما لو أن جسماً غريباً يأوي هناك. وقد أصبت بالهلع عندما فكرت بأنه من المحتمل أن يكون ذلك المصباح، ولم أفكر بالرجوع هناك لاسترداده، أخشى أن أضيع مثل ذلك الرجل وأبقى محاصراً للأبد في هذا المكان المليء بالثقوب وتيارات الهواء.

تعليقات

  1. قصة جميلة والترجمة عظيمة .. لاتوقف

    ردحذف
  2. أشكر لطفك يا ضيف ومرورك العزيز.

    ردحذف
  3. أسلوب ساخر ماكر لكن مبهر والترجمة جميلة وموفقة

    ردحذف
    الردود
    1. نص فنتازي رائع وهادف
      الترجمة رائعة جدا ومتميزة رغم اللغة الام إسبانية
      ياريت تتحفنا بقصة (المسافر) مترجمة للقاص خوان خوسيه ايرنانديث

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".