أجراس الإنذار..




كانت المرة الأولى في ساوثامبتون حين تعطل نظام التدفئة بشقتي، فأمضيت الليلة في فندق على أطراف المدينة، تحيط به الأشجار من كل جانب. بدا شديد الهدوء مثل مصحة. قلت من يقيم هنا لا بد أن ينتهي به الأمر ليعيد النظر في حياته، ثم يطلق النار، وبينما أحدث نفسي انطلق جرس الإنذار معلناً عن حريق.



كانت أمي تبكي حين ودعتها مسافراً على غير عادتها فخشيت ألا يرى أحدنا الآخر مجدداً. ما إن وصلت مطار ساوثامبتون حتى انزعجت لمنظر الغربان ورأيتها علامة شؤمٍ صريحة بالكاد تجاهلتها مردداً قصيدة هايكو حديثة: "أيها الغراب، لماذا تلبس الأسود دائماً مثل جوني كاش".



كان جرس الإنذار يدوّي، وأعلى منه غريزة البقاء التي ذكرتني على الفور بضرورة تجنب المصعد ثم أشارت علي بالخروج من البلكون الذي يطلّ على ملعب البيسبول. كنت في الطابق الأول، قلت بضعة كسور ثانوية أو حتى مضاعفة أفضل بالتأكيد من حروق الدرجة الثالثة هذا إذا حالفني الحظ ولم أتفحم. توقف الجرس بعد دقائق واعتذروا عن الإنذار الخاطئ.



المرة الثانية في ماريوت القاهرة، كنت في الطابق الرابع عشر الذي هو في حقيقة الأمر الثالث عشر لولا أنهم على الطريقة الغربية تحايلوا على صيته المشؤوم فرموه من أعلى البرج. انتبهت في المصعد إلى أن الدور الثالث عشر غير موجود وهو أمر مستبعد هندسياً على الأقل. لا يمكن لهذه السخافات أن تضلل القدر الذي يسخر من الديكتروفوبيا أو رهاب الرقم ١٣ وغيرها من الفوييات. لا يمكن للصحراء أن تكون مفازة فقط لأننا اخترنا لها هذا الاسم. ثم إن الأعور لم يُعطِ أحدًا عينه حتى ندعوه كريم عين، وإن فعل فلا بد أنه قد أهداها لامرأة. هذه النهاية الطبيعية لأغاني سيد مكاوي "وان جتني يا مهنّي نذر عليا العين والنني" كنت قد فعلت الأمر نفسه في الزمانات وبعد دقائق ندمت فرحت لأستردها. أشارت صديقتي إلى حوض سمك تسبح فيه عيني وأعين العشاق الحمقى. على أية حال، لن يكون الدور الثالث عشر غير الثالث عشر حتى لو كتبنا على حيطانه رقم ١٤.



جعلني هذ الموقف أعود لهاجسي القديم، لطالما راودني الشك أننا نستخدم الكلمات الخطأ وبأن مفردة الباب مثلا قد لا تعني ذلك الشيء المستطيل الذي ربما كان اسمه نافذة. لعل هذا ما يمنعنا عن الدخول في بعض الأحيان. لعل الفم في الأصل ماء والماء فم وهذا بالتحديد ما يجعل بعض القبلات شديدة العذوبة أو الملوحة. ربما كانت المكواة مؤخرة، والعكس صحيح مما يعني أن الدائرة هي مستطيل في الأساس وبالتالي تكون الأرض مستطيلة! يالسوء الفهم.



عندما انطلق جرس الإنذار كنت في الطابق الرابع عشر الذي كان لحسن الحظ الثالث عشر وهذا وحده كفيل بتقصير المسافة ولو قليلاً وقبل أن أخرج اعتذروا عن الإنذار الخاطئ. 



في الدور العشرين أمس كان جرس الإنذار لطيفا على غير العادة وصوت ناعم يليق بمكالمة ليلية يحذر من الحريق. خرجت مذعورا فوجدت عجوزا تركض أسرع من تأبط شرا وهو القائل: " لا شيء أسرعُ مني ليس ذا عُذَرٍ.. أو ذا جناحٍ بجنب الريدِ خفّاقِ" ورغم تطمينات الفندق وتأكيدهم على أنه مجرد إنذار خاطئ لم تتوقف. أظنها مازالت تركض حتى الآن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".