الشيخ الذي أراد أن يختبر كروية الأرض..
وقف الشيخ واعتمر قبعته بعدما دسّ في البقجة خمس تفاحات وثلاثة مراهم ثم اتكأ على عصاه والتفت فبدا بلحيته البيضاء الطويلة مثل تولستوي. تنحنح ثم قال إنه سيختبر كروية الأرض بنفسه، فإن كانت كما يزعمون، ما عليه سوى أن يمضي في طريقٍ مستقيم فلا يحيد عنه يمنةً أو يسرة حتى يقطع الأرض كلها فينتهي به المطاف هنا، وأشار بسبابته إلى باب البيت. أوصى ابنه البكر والوحيد أن يعتني بأمه ريثما يعود بالخبر اليقين. قال إنه لن يغيب أكثر من سنة أو سنتين في حال كانت الأرض كروية أما إذا كان الأمر غير ذلك فليرحمه الله. لم يأخذ في الحسبان شيخوخته ولم يتفكر قليلا في الصهد والضواري وقطاع الطرق والجبال والحدود والمحيطات واستحالة الفكرة من الأساس بل وسخافتها، بدا مثل حاجٍ لا همّ له إلا أن يتطهر.
كانت العجوز تعجن كعادتها كل صباح، وتنصت ضاحكة إلى أن جاء ابنها يتألم معلنًا أن أباه قد جُن. قالت مؤكدة: "منذ أمدٍ بعيد، بل أظنه وُلِد مجنونًا" وراحت تحدثه عما قاست من أبيه طوال تلك العقود وكيف تكتمت على جنونه مخافة أن تشمت بها الجارات، ويشمت أبناؤهن بولدها، ثم أخذت تسأل الله أن يحفظ شبابه وعقله. وحين رأت أن ابنها لا يزال مذعورًا حاولت تطمينه فأقسمت بأن الأب لن يمضي أبعد من جارهم السابع فإن تجاوزه فستشعل الفرن وتلقي نفسها بداخله عوضًا عن هذا العجين، ولن تخرج حتى يعود إلى البيت وإن كانت تفضّل ألا يعود.
كان الشيخ في هذه الأثناء قد أقفل باب البيت واختار أن يمضي جهة اليمين طلبًا للبركة والفأل الحسن. صادف أن جُعلًا يسلك الطريق نفسه فأخذ الشيخ ينظر إليه في إجلالٍ إذ راح الجُعل يدفع الخراء بأنفه في همةٍ لا مثيل لها، ولو سمع الشيخ بأسطورة سيزيف لأقسم أن هذا من أوحى لآلهة الأولمب بذلك العقاب، ثم راح ينظر في سخط شأنه شأن أي أبٍ حانق ابتلاه الله بالحمقى ورزق أقرانه أبناء صالحين.
راح الابن يتبع أباه بالسرّ مثل مخبر، وإن كان يطارده لا ليشي به بل ليدفع عنه الوشاية، وكم خاف على أبيه وإن كان خوفه من الفضيحة أكبر. راعهُ أن الشيخ راح يصعد الجبل بدلًا من الالتفاف حوله وعندما كاد أن ينزلق هرع لمساعدته. توسل إليه أن يعود فأبى ولما سأله لماذا لم يلتف على الجبل قال إنه يخشى أن يميل قليلًا فينحرف عن طريق العودة إلى البيت ويظل هكذا يطوف الأرض أكثر من مرة بحثًا عن بيته. وماذا ستفعل عندما تبلغ البحر؟ سأركب عبّارة. وإن لم تجد؟ سأركب الحوت.
ركب الشيخ رأسه ولن يعود، هذا ما خطر في ذهن ابنه لولا أن الشيخ سيرتطم بالسجن الذي يقبع خلف الجبل. سيُقبض عليه بينما يحاول جاهدًا تسلق السور فيخرج الضابط مُرحبًا: كان من الأسهل أن تطرق الباب وقبل أن يحكي الشيخ قصته يُساق إلى المحكمة. يهمس الضابط في أذن ابن المتهم: من مصلحته أن يقضي عندنا بعض الوقت بدلًا من قضاء ما تبقى من حياته في مستشفى الأمراض العقلية. سيتنازعان عليه في الوقت الذي يلعنهما عُمدة البلدة في سرّه إذ فوّت الحمقى عليه مجد أن تثبت هذه البلدة كروية الأرض أو تنفيها.
تعليقات
إرسال تعليق