ومرت الأيام..
في مثل هذا اليوم قبل خمسين سنة تقريبًا، استيقظ عبدالوهاب في بيته بالزمالك، فتح عينيه ولما اطمأن أنه ما يزال حيًا، استند على طرف السرير، ورفع رأسه قليلًا إلى أعلى الجدار حيث تنتصب صورة أمه، ألقى عليها تحية الصباح فردت بمثلها ودعت له بالرضا والرزق الوفير.
كانت السيدة نهلة القدسي حرم عبدالوهاب تُطِلُ كل خمس دقائق ولما وجدته هذه المرة مستيقظًا، أقبلت قائلةً: "صباح الخير يا حبيبي"، فاطمأن عبدالوهاب إلى أنها ما تزال حيّةً هي أيضًا، وابتسم مرددًا: "صباح الخير يا نانا". طبَعتْ قبلةً رطبة على خده فاستنشق عنقها حتى نما النعناع في شُعبهِ الهوائية، ولما ناولته النظارة أمعن فيها النظر فوجدها قد سرّحت شعرها القصير إلى الخلف، وجعلت أطرافه تلتف تحت أذنها فبدا أقصر مما هو في الحقيقة. كان عبدالوهاب قد أسرّ إليها ذات مرة أن هذه التسريحة تذكره بالمتنبي حين يقول: "على قلقٍ كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوبًا أو شمالا"، ولما تجهمت قال إنها بهذه التسريحة توجِّه الريح أيضًا أينما تشاء، ثم غابت في قبلةٍ طويلةٍ مستحقة. كانت تعرف جيدًا أن هذه التسريحة تتيح، بين حينٍ وآخر، لعنقها الطويل أن يبرز آيةً للناظرين. أما جسدها فيستريح في فستان قرمزي، ذو أكمام قصيرة، يلامس بالكاد ركبتيها. كلما أنعم النظر إلى ساقيها وجد فيها مقامه الموسيقي الأوحد فسكنت نفسه وتبددت مخاوفه حتى حين، وما كانت مدام نهلة لتبقى في بيته يوماً واحدا لو توقف عن النظر إليها بهذه الطريقة.
ساعدتهُ على ارتداء روب الحرير الأسود، ولما رأى عودهُ يستند على الجدار تذكر أغنيته القديمة وراح يدندنها: "آه كم من وترٍ نام على / صدر عودٍ نوم غافٍ مطمئنِ/ وبه شتى لحونٍ من أسى.. " ونسي بقية الكلمات فراح يترنم ما يذكر من أنغامها. قالت إنها ستذهب لتُعِد الإفطار. احتضن العود كما يحتضنها، وراحت مقدمة "دارت الأيام" تدور في رأسه. فتخيل الأوكرديون يفتتحها، تقاطعه تقاسيم قصيرة للغيتار، ربما يعزفها الولد الصغير خورشيد، لن ترفض الستّ، ما عادت مؤخرًا تدافع عن تختها الشرقي، ثم يحين دور النهاوند، والنهاوند أكثر مقام موسيقي بدأ به عبدالوهاب ألحانه، حتى صار يتفاءل برحابته فيشرّق بعدها إن شاء أو يُغرِّب. تتمرجح الموسيقى بعدها مثل أمٍ تهدهد عربة طفلها، أو موجةٍ تهدهد قاربًا على الساحل، ولأن البيات مسقط رأس عبدالوهاب لا الشعرية فلا بد أن يعود إليه مهما ابتعد. وهكذا سترفع الكمنجات البيات مثلما يرفع البحارة الأشرعة، سرح قليلاً والتمعت عيناه، سيجعل الحفناوي ينفرد بصولو بيات قصير، يا سلام لو عرّج بكَمَانه قليلًا على الهزام، ثم تعود الفرقة كلها إلى البيات مرةً أخرى، لا بد أن يفقد الحضور عقولهم هنا فيهتفون بشدّة، أغمض عينيه وراح يتخيل الهتاف. كانت السيدة نهلة في هذه الأثناء تدعوه إلى الفطار، إلا أن ضجيج الجمهور حال بينه وبينها فلم ينتبه عندما وقفت أمامه حتى انتهت في رأسه عاصفة التصفيق.
تعليقات
إرسال تعليق