كامل الشناوي
منذ أعلنت دار الكرمة عن إصدارها ليوميات كامل الشناوي وأنا أغرق في شبرٍ من الحنين دون أن أطلب النجدة، دون أن أحرّك ذراعي أو قدمي، وما كنت لأصحو في سريري كل صباح لولا أن جذعًا من الحنان ظل يحملني طوال الليل.
كأن دار الكرمة ألقت على وجهي رزمةً من السنين فارتدّ عام ١٩٩٥ وعدت مراهقًا يردد قصيدة الشناوي: "آمنتُ بالحب في عروقي.. بالظنِ بالشوكِ باللهيبِ.. آمنتُ آمنتُ يا حبيبي.. آمنتُ فاغفر إذن ذنوبي.. يا فتنة الروح ما لروحي.. تضِل عن عفوك الرحيبِ.. كم راعها الدهر في صباها.. بكل قاسٍ من الخطوبِ.. ورُعتها بالصدودِ ويلي.. أأنتَ والدهرُ يا حبيبي؟! أينقضي العمر بين أهلي.. وأشتكي لوعة الغريبِ" رحت أدندنها على لحن السنباطي "أغارُ من نسمة الجنوب" ربما لأن القصيدتين تسبحان في البحر نفسه، وتتشاركان القافية نفسها بل وحركة الروي. أرددها فأنتبه أن كامل هو من علمني هذه العادة، طلب المغفرة، وهكذا رحت أسأل حبيبات الزمن الماضي أن يغفرن لي بمناسبة وبدون. لا بد أنني بدوت حينها أكثر بلاهةً من الأمير ميشكين.
لئن أخفق كامل في تعليمي الشعر إذ لم أكتب آنذاك أكثر من هذه السخافات: "كل الطريقِ زجاجٌ فكيف أمضي إليكِ؟ وكيف أقنعُ قلبي أن لا اهتمام لديكِ؟ مغفلٌ حين يبكي، على الهوى وعليكِ، ويرتمي كسيجارٍ، بالقربِ من قدميك" _حان دورك لتغفر لي يا كامل- أقول لئن أخفق في تعليمي الشعر فقد علمني الغزل وأحسن تعليمي. لطالما أغرمت ببراعته الغزلية. أن يُلِح على إحداهن لتلعنه بعدما أيقظها من النوم ذلك أن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. أن يزعم أن سكرتيرته الناعمة لفرط رقتها تطرق دُرج مكتبها ثلاث مرات قبل أن تفتحه كأنها تستأذن لتدخل يدها. وهكذا نشأت ألتقي بصديقة في مقهى فأطلب طاولة لثلاثة أشخاص فإذا أبدت اندهاشها قلت الكرسي الثالث لضحكتك أو لغمازتك إذا كان لها غمازة، وليكن كرسي أطفال فيضحك النادل وتخجل قليلا، ولما تشكو إحداهن من شكل نابها أقول اتركيه، لقد خلقه الله لتغرسيه في قلبي حتى شطحت ذات مرة وقلت لإحداهن إن الأسود الذي ترتديه ليس للحداد بل هو أقرب إلى قوس قزح، ثم حدثتها عن قصة قصيرة لأليس مونرو يزعم فيها أحدهم أن قوس قزح ليس إلا وعد الإله بأن لن يكون هناك طوفانٌ آخر، ولما كانت الصبية في حداد على أبيها أغلقت السماعة بعد أن حذرتني من معاودة الاتصال.
كنت قد عرفت الشناوي من طرف عبدالحليم الذي عرفه عن طريق نجاة الصغيرة التي عرفته من عبدالوهاب، في لحنه الشهير "لا تكذبي". وكنت لا أملك نفسي كلما غنّى عبدالوهاب:"ويداكِ ضارعتان" ثم توقف قليلا ليستجمع شجاعته أو لينثرها :"ويداكِ ضارعتانِ ترتعشانِ من لهفٍ عليهِ" الملعونة! تبدو هذه الأغنية سلاحا في يد كل من تعرض للخيانة، وهذا السلاح الخطير كما هو معلوم لا يطلق الرصاص إلا على صاحبه. قالوا إنها نجاة، وقالوا إنه صباح قباني مدير تلفزيون دمشق وقالوا بل نزار، وقال آخرون إنه المخرج عز الدين ذو الفقار وقال يوسف إدريس إنه هو.
لطالما بدا كامل الشناوي في عيني مثل آلة تشيلو، لقصائده صوتها، صوت الناجي الوحيد من مذبحة، لا يستطيع النسيان ومازالت تعذبه الكوابيس. كبرت قليلا ونسيت الشناوي أو تناسيته حتى وقعت على رسائله القصيرة مطبوعةً في أوراق وردية حالمة. لطالما حلمت أن أكتب مثله بهذه النقمة سريعة الزوال: "أحببتكِ من قلبي وكرِهتني من قلبك.. إنما أنتِ دمية صُنِعت هكذا ولا حيلة لها في نفسها، ولا ضير عليك وإنما الضير على من ظنوكِ مخلوقا يحس ويعقل، ولكن كيف تكونين دمية؟ كلا بل خلقك الله كما خلق الشيطان والأفعى ولقد أحببت من أجلك كل شيطان وأفعى..".
قالت نجاة إنها صغيرة وهو عجوز، وهي تحب الجلوس إلى الناس، وهو يحب الجلوس إليها وحدها، وهي تحب أن تتكتم على شؤونها الغرامية ويحب هو إذاعتها بل التغني بها، وهي جميلة وهو وحش وإن لم تقلها نصا. لو ارتبطا لبدا زواجهما أشبه بزواج حمامة وفيل كما قيل عن فريدا ودييغو. كان الشناوي يرى الجمال في الشحوب والنجوى، وعظام الوجنة البارزة على عكس صديقه عبدالوهاب الذي يقدس القوام الممتلئ والرقبة العريضة، وما جدوى العنق الطويل إن لم يتشعبط فيه الرجل مثل طفلٍ أو قرد. كبرتُ قليلا فأبصرت قصائد الشناوي دون غشاوة وعرفت منزلتها الحقيقية في الشعر وإن بقيت أثيرةً فلم يضللني درويش ولا غيره.
كان الشناوي لا ينام في آخر حياته، وكنت مثله فترةً من الزمن. كان يتنقل من ملهى لآخر، ومن بار لآخر حتى ترسل الشمس شعاعها الأول فينصرف فرِحًا إلى بيته فكأنه يحتمي من الموت بالناس والسهر. أخاله مثلما قالت بالضبط مارغريت يورسنار في مذكرات أدريان: "فالإنسان الذي لا يغطّ في النوم، يأبى بشكلٍ واعٍ تقريباً أن يطمئن إلى دفق الأشياء". ومن قرأ مذكرات نابوكوف سيجد أنه أيضا يرى في النوم تعذيبًا ليليًا مهينا ولم يتحمل أبدا هذه الخيانة الليلية للمنطق، للإنسانية وللنبوغ، ومهما بلغ من الإرهاق فإن فراق الوعي أشد وأوجع. قال الشناوي ببساطة للطبيب إن الموت يحدث دائما في الليل. كانت جدتي أيضا تسأل الله ألا يقبض روحها في الليل. ماتت في إحدى الصباحات، ولا أدري عن كامل الذي لم يحتفظ بساعة في بيته، باستثناء المنبه في غرفة النوم، لأن عقارب الساعة على حد وصفه مثل طرفي مقصلة، في كل حركة تقصف أرواحا.
تعليقات
إرسال تعليق