جسِّرني..
ربما كنت في الرابعة عشرة حين رافقتُ أمي إلى السوق. قالت: "جسِّرني" وهي كلمة ورثَتَها بالتأكيد عن أمها إذ لم أسمع غيرها ينطقها إلا نادراً. كانت جدتي رحمها الله تصرّ على ألا يذهب أحد أحفادها الصغار وحده إلى أي مكان حتى إلى بيت الجيران. أظنها كانت تخاف علينا من الضياع أو مكروه يسهُل وقوعه على فردٍ واحد كالوحدة مثلاً، أم تُراها كانت تخاف علينا من الوحدة؟ وقد رأت فيها ما يجذب الكوارث فاندفعت تدعونا كل مرة ليُجسِّر بعضنا البعض. أن يُجسّر المرء أحداً يعني أن يشجعه فيجعله جسوراً، بيد أنها كانت تقصد الشعور بالأمان لا الجسارة، وهكذا ظنت أن الرفقة تدفع الخوف بعيداً، وإن كنت لا أخفي محبتي الكبيرة للمعنى الحرفي "ساعدني لأعبر الجسر" وكل من يساعدنا على العبور هو جسر بشكل أو بآخر وهكذا يمكن أن تكون جسّرني "كن جسراً لي" أو بقليل من الرومانسية وعدم الدقة "كن جسري".
في طريقنا إلى السوق كان علينا أولاً أن نقطع محلات الأثاث حتى نصل إلى محلات الملابس والأواني. ولما وقع نظري على مكتب بني داكن توقفتُ فسألتني أمي ما الأمر. قلت أريده، فوعدتني أن تكلم أبي بشأن المكتب إلا أنني ألححت -ولم أعتد الإلحاح ولم تعتده مني- إذ يكفي أن يقول أبي: "لا" مرةً واحدة حتى يختفي ذلك المكتب من أحلامي. لطالما استغل الأبناء حنان الأم فما انفكوا يتمادون عليه. وهل تظل أُماً لو كفّت عن الغفران؟ راحت تقنعني أن هناك ما هو أهم، وأنها ستبذل ما بوسعها في المرة القادمة، وأشارت بيدها حتى نمشي فلا نتأخر في العودة. كان البائع يتابعنا في صمت مراهناً في سرّه على رحمة الأم لا على تعنت الولد. كم كان دانييل بيناك مُحِقاً حين ذهب إلى أن قوة الصغار تكمن في هشاشتهم ووعيهم بتأثيرها. ولما قالت أمي إنها لا تملك ما يكفي من المال، فثمن المكتب ٤٠٠ ريال وليس في جيبها غير ٣٠٠ ريال تدخل البائع قائلاً إننا نستطيع بهذا المبلغ شراء الطاولة فقط دون كرسي. لا أتذكر الحادثة بالتفصيل لكنها انتهت بمكسبنا نحن الثلاثة، البائع وقد ربح المال واعتد بذكائه، أنا وقد اقتنيت طاولةً فخمة، أمي وقد عادت بسعادة ابنها دون أن تعود بحاجات البيت الضرورية.
كان لون الطاولة بنيا داكنا جداً إلى درجة لو أنك أضفت القليل من البني لصارت سوداء. كانت طاولةً عريضة بعض الشيء ولا تخلو من وجاهة مصطنعة. لها ستة أدراج اعتدت أن أقفلها رغم خلوها وأن أحمل مفاتيحها معي أينما ذهبت. كانت تلائم مكاتب العقارات أو مكاتب المحاماة الصغيرة أما في غرفة النوم فقد كانت نشازاً عريضاً. بقيتْ الطاولة في البيت لسنوات دون كرسي إذ كنت أقترض لها كرسياً بلاستيكياً من المطبخ. كان مجرد النظر إليها من السرير يجعلني أشعر باعتزاز لا ينقصه سوى أن أفض عليها بعض الرسائل المختومة بالشمع الأحمر. لم يتشارك معي هذه النظرة أخي الذي يشاركني الغرفة وراح يلعنها كل يوم تقريباً لأنها جعلت الغرفة الضيقة أضيق مما كانت عليه. أفكر أحياناً أنني ما كنت لأعبر زمن المراهقة بأقل الأضرار لولا وجود تلك الطاولة. سألتُ أمي أمس هل تذكرين الطاولة البنية الداكنة؟ فنفت بإشارة من رأسها. كدت أستطرد في محاولة يائسة لتذكيرها ثم توقفت وقد انتبهت، ربما كانت هذه الأمومة؛ أن تبذل كل شيء ثم تنساه.
تعليقات
إرسال تعليق