سلوا قلبي
أتذكر الآن ما قلته في زمنٍ بعيد عن الدموع وقطاراتها التي لا تحملني إلى الوجهة التي أريد. ومع ذلك كنت قد ركبتها بالطبع غير مرة، إذ كان فيها على الدوام مقعد شاغر. لكنني أعجز عن تذكر آخر قطارات البكاء، ولولا الخوف من المبالغة لقلت إنه قطار قديم جداً حتى أنه كان يعمل بالفحم. كبرت قليلاً فقرأت السيرة الشهيرة "قدمي اليسرى" لكرستي براون وقد عاش حياته مشلولاً مثل حجر، حتى آنَسَ حركةً في قدمه اليسرى فراح يكتب بها ويرسم. لم أعد أتذكر من تلك السيرة غير هذا السطر أو نصف السطر بالأصح: "لقد فقدت الراحة التي تهبني إياها الدموع". نعم لقد فقدت تلك الراحة، فقدتها إلى الأبد ولن تعيدها إلي حتى تضرعات عبد الباسط عبد الصمد. ولما وجدت أم الضحاك المحاربية تقف مثل نطاسيّ لتصف علاج الحب وأمراض أخرى، فتقول: "أو اليأسُ، حتى تذهلَ النفسُ بعدما.. رَجتْ طمعاً واليأسُ عونٌ على الصبرِ"، قلت هو اليأس إذن.
الحقيقة أنني أراوغ حتى لا أبدو مثل عبد الوهاب حين زعم في إحدى أغنياته أنه لا يشكو ولا يبكي تحت أي ظرف، إذ أن التغني بذلك، بكاء وشكوى في حد ذاته. وقد علمت منذ زمن أنْ ليس في البشر أقوياء، ولكن فيهم من توقف عن الشكوى. لا أبكي الآن، أقولها بأسى ومرارة، وأظن امرئ القيس كان محقاً حين قال في معلقته: "وإن شفائي عبرةٌ إن سفحتُها". لا تبكيني القصائد ولا حتى الجنائز، ولا أتعاطف مع حوادث الانتحار بقدر تعاطفي مع آنا كارنينا. لا أبكي للأسف، والتماعة العينين هي أدنى نقطة يمكنني فيها الاقتراب من الدموع. تلك الالتماعة التي يلمحها المرء في متاجر الحيوانات المحنطة فلا يجرؤ على إخبار الآخرين عنها حتى لا يكذبوه. التماعة وحيدة مهما أطال الوقوف وأمعن النظر فلن تتكرر، حتى إذا ابتعد وصار الأيل أو الدب خلفه أحسَ بتلك الالتماعة وتأكد منها دون حاجةٍ إلى الالتفات. لخوان سابينا أغنية بعنوان "اسمع يا دكتور" يتوسل فيها أن يُعيد إليه مرض الضغط فقد كانت حياته أسهل وأصدقاؤه أكثر، ولو وجدت هذا الدكتور لرجوتهُ أنا أيضاً أن يُعيد إليّ دموعي.
كنت قد خرجت إلى الشارع لأودع أبي في أول رحلة علاجية. قبلّت رأسه مرتين، لم نعرف بعد في بيتنا قبلة اليد، ربما لأن أبي كان في منتصف الأربعين، فقد بدت تلك القبلة حصراً على الجد والجدة، ولما بلغ الستين رحنا ننزل على يده، وقد نزلنا بها طيلة حياته، فنقبلّها. بدت هذه القبلة، شرط أن تكون عن محبة لا عن خوف، أقرب إلى رجاء نستحلف فيه كبار السن ألا يرحلوا، أن يبقوا معنا يوماً آخر. ودعته متمنياً له السلامة، ولما ركب سيارته البيضاء خطر في بالي أنه لن يعود فسالت دموعي. خرج أبي من سيارته فأمرني بلطفٍ لا يخلو من حزم: "توقف" فلم يزدني إلا بكاء. رَبتَ على كتفي حتى امتثلت لأمره ليس نفسياً فحسب بل وعضوياً. بدا أن ذا القرنين هو من تكفل شخصياً بسد القناة الدمعية ولن يتوقف يأجوج ومأجوج عن نقبها كل يوم.
عشت ثلاثين عاماً في كنف أبي، ولم أرهُ يبكي أبداً. وإذا كان بأسه الشديد يمنعه عن البكاء فالعجز الشديد هو ما يمنعني. أتذكر عندما هاتفهُ المستشفى لينقل خبر وفاة جدتي، ندّت منه آه فكبحها في المنتصف، هذا كل شيء. قال الطبيب إنها ماتت في يسر ودونما ألم، أظنهم يواسون الجميع بمثل هذا القول. هاتفني بعد سنوات طويلة مستشفى آخر ليقول لي الأمر نفسه. مات أبي ولم تكن ردة فعلي غير آهٍ كبحتها في المنتصف، وإن كنت قد عصيته قبلها. كان في الغيبوبة، وكانت أمي تصلي بجواره، التفتت فبدت في عيني مثل أرملة، ولعلي بدوت في عينيها يتيماً، وفي تلك اللحظة تحديداً بكينا معا. كم تأخرت تلك المكالمة المشؤومة، فقد مات أبي قبلها بأيام. قلت ما قاله شوقي وقد كان أحد شعراء أبي المفضلين في معارضته للمعري وهو مفضلً عند أبي أيضاً: "الأناةَ، الأناةَ، كلُ أليفٍ.. سابقُ الإلفِ أو ملاقي انفرادِ". لكن ربما استطاع شوقي أن يبكيني.
يرى بطل رواية اندريس نيومان "يتحدثون إلى أنفسهم" أن على كل أب أن يهب ابنه رحلة برية، الأب والابن فقط، يقطع فيها الاثنان أي بلدة أو صحراء أو حتى خرائب، المهم أن يركبا معاً ويحدقان إلى الأمام ولا بأس لو حدقا إلى الداخل أيضا. منحني أبي هذه الرحلة، قطعنا معا طريق الشام الذي يزيد طوله عن ٢٠٠٠ كم. رافقته أيضا في رحلة علاجية، كانت أم كلثوم تغني قصيدة شوقي "سلوا قلبي غداة سلا وثابا". ما أشبه عودة القلب المكلوم بالعودة الثانية لدون كيخوته. كان قد هُزِم للتو في نزالٍ فحكم عليه فارس القمر الأبيض أن يعود إلى قريته فلا يخرج منها قبل مرور عام كامل، بعد أن تمادى في غيه ولم يجد أهله بُداً من هذه الحيلة. يبدو القلب حين يحب شبيهاً بدون كيخوته، فما أوهام الأول إلا خرافات الثاني، ولا فروسية هنا أو هناك. كان أبي يقود السيارة ليلاً، لا أستطيع رؤية وجهه لكنني أشعر بنشوته وإيماءة رأسه في تأكيد على الشطر الثاني "لعل على الجمالِ لهُ عتابا". وأكاد أقسم أنني أسمع زفرته التي حبسها عند قول شوقي: "ولا ينبئكَ عن خُلِق الليالي.. كمن فَقَدَ الأحبة والصحابا" فإن لم تكن هذه الزفرة له، فلا بد أنها لي.
ضفة ثالثة ٢٠٢٠
زاوية "ومن الشعر ما أبكى"
تعليقات
إرسال تعليق