الرسام ومخلوقاته - أنتونيو تابوكي
الرسام وحيد، وحيدٌ تماماً في شقته المتهالكة. لا قطة عنده، لأنه يريد البقاء وحيدا. الوقت ليل، والمدينة نائمة. والمطر خلف الشبّاك حَجَبَ أنوار الشارع. تحضّر الرسام للقاء مخلوقاته. على الطاولة كؤوس وقناني نبيذ. لا يدري من سيأتي الليلة من مخلوقاته، أيهم سيمثل لاستدعائه. وضع الرسام أوراقه كما توضع المحارم. ثم رتّب ألوانه المائية على الطاولة، وراح يخففها بالماء في صحون صغيرة كان قد أعدّها بجانب الأوراق مثل طعامٍ سحري.
لقد مزج غالباً اللون الأزرق بالأخضر الشاحب والوردي العتيق. كان قد جهّز أكثر من لونٍ أزرق: السماوي، والداكن، والبرّاق، والليلي. سيخلط بعد ذلك الوردي الحليبي مع القليل من اللون الأزرق. لطالما كان يفضّل اللون الأزرق لعلمه بأن المخلوقات التي ستزوره مخلوقات ليليّة، من فضاءٍ يتوسط النجوم. أشعل الإضاءة، ارتشف النبيذ في صحة زواره الذين يوشكون على الوصول. تقدم الليل في هذه الأثناء، وفي الخارج يمكن سماع وقع خطوات بين الحين والآخر كأن شخصاً يمر في الشارع. ولكن هذه ليلة متوسطية حافلة بالمطر والرياح الشرقية. ونحن في مدينة متوسطية، وإن كان الرسام قد اعتاد على الإقامة في شمال أوروبا حيث السهول المغطاة بالثلوج، والبيوت الخشبية الصغيرة، والأنهار المتجمدة، والجدران البحرية. وقد عاودته ذكريات جليّة عن تلك الأماكن، إضافةً إلى مشاهد مرسومةٍ بإتقان، ومتاحف بيضاء يمشي الناس فيها على أطراف أصابعهم بينما يتخلل نوافذها نور أبيض حليبي. عاد من هناك بمذهب الانطباعية، حيث تُرسم الأشكال غير واضحة المعالم، مستخدماً الألوان المائية بطرقٍ متوسطية لتغدو مثل حيوانات ليمور، وأشباح لطيفة، ووجوه تضحك بلا طمأنينة، تعلوها ابتسامات تشي باحتقارٍ غامض. يرفع الرسام كأسه ويقول تعالي أيتها المخلوقات الزائرة. ثم يأخذ قلمه الرصاص وفُرَشهُ فيجلس قبالة الورق الأبيض.
ها قد أتى المخلوق الأول محشوراً فيما يشبه بويضةً شفافة مثل جنينٍ من كوكبٍ آخر. جاء من مجرّةٍ بعيدة واستغرق أعواماً ضوئية ليصل إلى هذه المدينة المتوسطية الدافئة حيث تومض الأضواء مثل قمرٍ على خليجٍ مائج. المخلوق دافئ، وشاحب، وله عيونٌ فضوليةٌ شديدة السواد تتفحص الرسام وغرفة الطعام الخاوية. تحيط به الزرقة الليليّة لفضائه الكوني حيث تنتهي المادة مفسحةً للثقوب السوداء. لا يتحدث لغتنا، ولكن لسببٍ ما، يعرف الرسام لغته، وهكذا يتبادلون الحديث. قال المخلوق: "كنت فيما مضى رجلاً مثلك، عشت في هذه المدينة، في هذه الشقة، قبل سنواتٍ طويلة، طويلةٍ جداً لا تستطيع أن تتذكرها. ثم رحلتُ كما يرحل الرجال، اختفيتُ من هذه الجدران، ومن هذه الحياة، وعثرت على أماكن أخرى، نائيةٍ وسريّة، عشت زمناً طويلاً في كتلة جليدية من الأحاسيس فما أحسستُ وما أدركتُ شيئاً حتى أيقظتني وجئتَ بي هنا.
ابتسم الرسام وذوّب وجه المخلوق بقطرتين من النبيذ قائلاً: "لشفافيتك". ثم وضع الورقة فوق المنديل وغمس الفرشاة في اللون الوردي.
وبإضافة القليل من الأحمر القرميدي إلى الوردي العتيق انسلخ جلد المخلوق الذي أُرغِم على الحضور وتغير شكله مثل يرقة تتحول إلى فراشة. استطالت أطرافه ونحلت حتى صار له أرجل فراشة، دون أن يتغير جذعه الأقرب إلى جذع رجل أو امرأة. يصعب الجزم بذلك. قد يكون خنثى. الاثنان معاً، لأنه في طور التحول، والعلامات الذكورية والأنثوية مرئية سلفاً، ومطبوعة في التركيب الوراثي. إنها امرأة جميلة تتحول إلى رجل. وهذا صعب للغاية، أما العكس من ذلك فعادي، بل يدعو إلى السأمِ في الغالب. يهيئ الرسام أسباب الراحة للمخلوق، ويرفع الكأس في صحته. ثم يحرك اللون الأزرق في الصحن. ومع اللون الأزرق يأتي المهرجون. لا يبدون كالمهرجين فحسب، وإنما يتصرفون مثلهم. وقد أتوا هم أيضاً من مكانٍ بعيد، بعيدٍ جدا. يقفزون، ويتشقلبون، ويتكوّرون، ويتلوون مثل اليرقات. ويتفحصون العالم في الوقت نفسه. العالم الذي لا يتجاوز بالنسبة لهم هذه الغرفة. فيطمئنهم الرسام: "لا تقلقوا، سنقضي الليلة معاً، ونشاهد الشمس تشرق على الخليج".
رتّبَ أولئك المهرجين على المناديل وشرب في صحتهم مرةً أخرى. رأسهُ الآن يدور قليلاً، لكن لم يسكر، إنما هو سعيد فحسب. ومن بعيد تقرع كنيسة أجراسها خمس مرات. أقبل الفجر. فتح الرسام نافذته وراح ينظر إلى الخليج. يا للمنظر البديع، الضباب الأزرق ينتشر، والنور يتصاعد متوهجا.
"وداعاً يا مخلوقاتي". أخذ الرسام يجمع ألوانه المائية. أما مخلوقاته فقد اصطفت فوق المناديل، وحدقت إليه في ذهول من اعتاد حياة الليل لا النهار. "سأغلق عليكم في كتاب، لتشعروا بمزيد من الراحة". أقفل النافذة، وأطفأ الأنوار، وذهب إلى السرير. سيحظى بنومٍ هانئ من غير أحلام إذ سبق ونال حصته الكافية منها.
ترجمة عبدالله ناصر
تعليقات
إرسال تعليق