اغتيالات..


 

لا يُسمح في بريطانيا بالدخول إلى متجر الأسلحة أو الخمور أو الألعاب الجنسية قبل بلوغ السنّ القانونية، وقد بلغتها منذ زمن بعيد، بل بلغتها مرتين قبل أربع سنوات. نظرياً يمكنني الدخول إلى متجرين في الوقت نفسه لو استطعت تقسيم جسمي. سيكون حاصل القسمة عندئذ شابّين طائشين في الثامنة عشرة من العمر، وطفل صغير ابن أربعة أعوام. آمل حينها ألا يدخل الشابان إلى هذه المتاجر، أو على الأقل ألا يدخلا معاً وينسيان الطفل في الخارج فيخطفه أحدهم أو يضيع. أضحكتني الفكرة وذكرتني بضرورة أن يبقى المرء واحداً فهو بذلك يحافظ بالكاد على نفسه.

كنت قد خرجت في جولتي اليومية فمررت بتلك المتاجر الثلاثة وظللت أمشي اليوم بطوله تقريبا. ولما عدت كان الليل قد تقدم فوقفت في البلكون أتأمل العمارة البعيدة وأنوارها التي راحت تنطفئ شيئا فشيئا. لمحت في إحدى النوافذ خيال رجل يحمل حقيبة على كتفه، وخمنت أنه يتهيأ للرحيل في هذه الساعة المتأخرة تجنباً لمواجهة رفيقته التي تنام الآن. ربما كتب رسالة يقول فيها "انتهى كل شيء" أو "سئمتُ كل شيء". لا بد لرسائل الرحيل من صيغ قاطعة كهذه. وربما يضيف سطراً حتى لا يحمل الذنب كله "حتى أنتِ سئمتِ أيضاً، ولكن لا تريدين الاعتراف بذلك". إن كتابة هذا النوع من الرسائل لا يختلف كثيراً عن كتابة رسائل الانتحار والدليل أن "انتهى كل شيء" أو "سئمت كل شيء" ملائمة جدا لرسالة انتحار قصيرة، بل معبرة أيضا. كان بطل حنيف قريشي -الذي هو الكاتب نفسه- في "الحميمية" قد سهر الليل كاملاً ليكتب رسالة طويلة يعدد فيها أسباب الرحيل، وفي لحظة يتوقف ويقول لو أن زوجته تنزل الآن فيتضاجعان بحرارة على الدرج لما غادر أبدا. لكن الزوجة متعبة بعد عناء يوم طويل، لعلها نسيت حتى أن تغسل وجهها أو أسنانها قبل ذلك. لقد نامت حتى قبل أن ينام الأطفال، والبيت الانجليزي صغير لا يكاد يسمح لأحدٍ أن يتضاجع فيه على الدرج. يظل الرجل طفلاً حتى النهاية! وقد علمنا ذلك فكتمناه. من يقرأ أعمال قريشي على كل حال يسمع صوت الزمن الذي يشبه صوت قطرات الماء لصنبور لم يغلق جيدا، ويسمع بوضوح أكبر قلة الحيلة تجاه ذلك التسرب.

في العمارة البعيدة ما يزال خيال الرجل الذي يتهيأ للرحيل واقفا. ربما تراجع، حنّ، خاف. ها هو ينزل الحقيبة من كتفه، أرجو ألا ينسى الرسالة ويمزقها قبل أن تغسل ملابسه فتجدها. وإن كنت أظن للأمانة أننا نكتب رسائل الرحيل لنمزقها لا ليقرأها الآخر. لكن الحقيبة أصغر بكثير مما يجب لراحل، قد لا يكون الرجل مخطئاً في قرار الرحيل، لكنه أخطأ قطعاً باختيار الحقيبة المستطيلة التي لا يحملها غير القناصة على أكتافهم. فهي بالكاد تسع بندقية من طراز ريمنغتون وكاتم صوت وبعض الرصاص. إذا كان هذا الوقت المتأخر من الليل يناسب الرحيل فهو بالتأكيد يناسب القتل أكثر. تهيأ لعينيّ أنه شرع في تركيب السلاح، وحالما يثبت كاتم الصوت سيسند فوهة البندقية على إفريز النافذة ليطلق رصاصة في قلبي ويتبعها برصاصة في الرأس لا داعي لها، لا داعي أيضاً للرصاصة الأولى. كنت مكشوفاً قبالة البلكون مثل بطة ساكنة كما يقول التعبير الانجليزي الشائع. لقد قتلوا مارتن لوثر كينغ هكذا. لو كان عندي خوذة أو سترة مضادة للرصاص. وقبل أن أتساءل لماذا لا يبيعون تلك الأشياء في السوبر ماركت تذكرت أجدادي الذين كانوا يذهبون للحرب عراة الصدور. رحمهم الله ورحم المتنبي حين قال: "وإذا لم يكن من الموتِ بدٌ، فمن العجزِ أن تكون جبانا". أطفأت النور لأنام أو لكيلا يتمكن القناص من رؤيتي. وعلى السرير سألت نفسي من تظن نفسك؟ لست مارتن لوثر كينغ، ولا مصلحة للأمريكان بقتلك.

ولما كان اليوم التالي ركبت في باص لندن المكشوف، كانت طلائع الربيع ونسائمه الحلوة ترفرف في الجو، ومعها ترفرف ضحكات الناس الذين بدوا عشاقاً فجأة أو سعداء أكثر من الواقع. خطر في بالي أنني مكشوف هنا أكثر من البارحة وأنهم قتلوا كينيدي هكذا. وقبل أن أتذكر أنني لست مارتن لوثر كينغ ولا كينيدي ولا مصلحة لأحد بقتلي نزلت من الباص ودخلت في زحام السياح لتضليل القناص الذي ما زال يتعقبني من الأمس، وإمعاناً في تضليله سرقت قبعة معلقة خارج أحد المتاجر. ظللت أنسل من زحام إلى آخر حتى قرصني الجوع فأدركت أنني نجوت. دخلت المطعم الإيطالي "بيت السباغيتي" الذي بدا في غاية الهدوء كأنه غطاء على تجارة غير شرعية. تذكرت أفلام المافيا الإيطالية لسكورسيزي وكوبولا ولمت نفسي لأني جلست على مقربة من الواجهة الزجاجية، وقد حذروا غير مرة من الجلوس في ذلك المكان. ستتوقف بعد قليل سيارة سوداء ويفتح الرجال النار، وإذا كنت محظوظاً سأزحف على الأرض وأخرج من الباب الخلفي. لم أكمل طبق البولو بستو وعدت سريعاً إلى البيت. هاتفني ابن خالي يخبرني أنه سيزورني في لندن بعد غد. أخيراً سيأتي من ينقذني من خيالاتي، كدت أرتاح لمجيئه لولا أن الحذِر يؤتي من مأمنه، وهكذا بعثوا أحد الأقارب لأطمئن إليه! أين يبيعون أجهزة الكشف عن المعادن، تلك التي في المطارات؟ لا أدري لم هذا الإلحاح على قتلي. ربما حان وقت الكشف عن الأسرار. أصور فيديو أفضح فيه كل شيء على أن أقايض رقبتي بتلك الأسرار فإذا قُتِلت ذهبت تلك الفيديوهات إلى النيويورك تايمز والاندبندنت والأهرام. لو أصرّوا على اغتيالي، وأسعفني الحظ في النجاة كل مرة فلربما تجاوزت الرقم القياسي المسجل باسم فيديل كاسترو الذي كان قد نجا من أكثر من ٦٠٠ محاولة اغتيال حقيقية أو متخيلة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".