طريق الدمام - الرياض السريع
لو كان لحياتي طريق لما كان غير طريق الدمام الرياض السريع. قطعتهُ أول مرة وأنا في ظهر الغيب، ثم في ظهر أبي، فبطن أمي، فيديها، فالكرسي الخلفي، فالأمامي، فكرسي السائق. قطعتهُ خاطراً، وأملاً، وجنيناً، وطفلاً، ورجلاً.
يبلغ طوله قرابة الأربعمائة كيلومتر، وإن كان لا ينتهي في العاصمة إذ يمضي بعدها الطريق رقم ٤٠ حوالي ألف كيلومتر فيجتاب الفلاة بعد الفلاة ويشج الآكام حتى يقطع المملكة بالعرض واصلاً شرقها بغربها. ثلاث مسارات في كل اتجاه، رُصِفت بالحصى والإسفلت وأغاني محمد عبده، يخاصرها السياج واللوائح الكيلومترية الزرقاء وكاميرات السرعة.
أسافر مع عمود الصبح -وعمود الصبح أول نورٍ من الفجر- فالطريق في النهار غير الطريق في الليل إذ لطالما وحّد الظلامُ الطرقَ وفرّقها النور. أملأ سيارتي بالوقود في الليل ولو كانت ناقة لمنعتها الماء بضعة أيام كما كانت تفعل العرب ثم أطلقتها لترِد من شدة العطش ما يعينها على مسيرة أربع ليال إذ لن تشرب بعدها إلا من عين آثال في صحراء الدهناء. أقطع بسيارتي الطريق في ثلاث ساعات فلا أتوقف أبداً امتثالاً للحكمة التي تقول إن: "المسافر عليل ودواه السفر". كنت في العاشرة حين سمعت أبي يرددها، وقد كنا على سفر فانعطفنا للسلام على أحد أصدقائه ولما أراد أن يستبقينا للعشاء اعتذر منه أبي بذلك المثل. ظللت طوال تلك الرحلة أتفكر في ذلك العليل الذي لا شفاء له إلا بمواصلة السفر فكأن داؤه دواؤه.
ومن يركب الطريق أول مرة لا بد أن تستوقفه ملاهي الجنّ أو العجلة الدوارة العملاقة. كانت قد انتصبت مثل لغزٍ في كبد الصحراء قبل حوالي خمس عشرة سنة. ربما يذكّره المنظر بأفلام نهاية العالم، أو ربما يتذكر قول البحتري في إيوان كسرى: "ليسَ يُدرى أصُنعُ إنسٍ لجنٍ .. سكنوهُ أم صُنعُ جنٍّ لإنسِ". كان العقاد قد ضرب مثلاً بهذا البيت على محصوله الذي يفوق محصول خمسين صفحة من القصة! ولهذا كان يعزف عن قراءة القصص والروايات! أما أنا فأقرأها وأتذكر حرافيش محفوظ. كان جلال ابن زهيرة عبدربه مهووساً بالخلود، وقد قصد ساحراً من أجل ذلك فاشترط عليه أن يبني مئذنةً في الخرائب، مئذنة تتألف من عشرة طوابق ومن غير جامع. ولا أدري ما إذا كان مالك الملاهي قد لاقى مصير عبدربه حين سممته عشيقته فخرج عارياً يتلوى من الألم حتى سقط في حوض الدواب جثةً نضرةً لا يكاد الدود يطيق انتظارها. حدثّتُ صديقي عن الملاهي أمس فقال إنه من تسلم ملفها في شركة الكهرباء حين كان يعمل هناك، قال إن المالك كان يطمح إلى إنشاء سفاري أو منتجع صحراوي ولا يعلم ما حدث بعد ذلك إذ انتقل صديقي إلى عملٍ آخر. كنت قد توقفت فيها قبل أسابيع وعزمت أن أركب العجلة ولما اقتربت خشيت حقاً من الجنّ! أنسى قدميّ أحياناً فتعبر الواقع إلى الخيال، وقد حدث لي الأمر نفسه قبل سنوات حين زرت المتحف المصري وتحسست بيدي الآثار فأمضيت الليلة كلها خائفاً من لعنة الفراعنة.
ولقد يظنها المسافر صحراء واحدة وما هي كذلك، بل صحارٍ مُلس، وقفارٌ كانت قديماً قفارا، ودياميم في إثر دياميم، والديمومة في المعجم صحراء واسعة لا ماء فيها. فإذا تردد على الطريق انتبه إلى الرمل الذي يحمرّ في الذهاب إلى الرياض ويشحب في طريق العودة، ولو أمعن النظر إليه لقدّر موقعه واستغنى عن اللوائح الكيلومترية الزرقاء. على أن الصحراء عكس الغابة تتحرك، وتمور كثبانها حتى تتشابه، فكثيب اليوم غير كثيب الأمس لذا لا نعبرها مرتين. كانت العرب تصف الأرض التي يضيع فيها الإنسان بالتيهاء، وقد مررت يوماً في حفر الباطن بهجرةٍ تدعى المتياهه ولما سألت عنها زميلي في العمل قال إن الأوائل وهم من هم، كانوا يضيعون فيها فما بالك بناس هذا الزمن. والصحراء متاهة من عمل الرب على حد وصف بورخيس في قصة الملِكين والمتاهتين. كان ملك بابل قد أمر مهندسيه وسحرته بصنع متاهة عظيمة التعقيد ولما زاره الملك العربي دفعه إليها فكاد يهلك لولا أن دعا ربه فاستجاب له وعثر على باب الخروج. ولما رد الملك البابلي الزيارة أطلقه الملك العربي في الصحراء متاهة الله حيث لا سلالم ولا أسوار ولا أبواب فهلك.
لئن بُعِث الغراب ليُلقن الإنسان تعاليم الدفن فقد بُعِثَت الإبلُ إلى الصحراء لتُلقن الإنسان تعاليم العيش. والمسافر يرى الكثير منها على جانبي الطريق فكأنها خرجت من الرمل والكثبان. وإذا كنتُ قد ألِفتُ هذا الطريق بإبله وعجلتهِ الدوارة ومحطاته -عيون السيارات- وأعمدة الكهرباء ونباتاته الشحيحة فما كنت لآلف شجرة المسكيت في ثلثه الأول. ما مررت بتلك الشجرة صيفاً ولا شتاءً إلا وجدتها خضراء فزدت عجباً على عجب. وإن كانت نفسي تستريح إلى خط من شجيرات الأثل اليابسة في طريق العودة، والأثل إبل النبات. أطيل النظر إليها فيأسرني ملمح شبابها الذاوي الجميل حتى أراني لا أسير في طريق الدمام الرياض بل في طريق من طرق الزمن.
ما شاءالله أستاذ عبدالله على جمال لغتك، هل هناك كتب وروايات عن الصحراء بلغة عربية أدبية وفصيحة يمكنك اقتراحها علي؟؟
ردحذفالله عليك!.. هذا طريقي منذ سكنت الرياض نسافر منه إلى الشرقية، وبيتنا في أحد الشوارع المتقاطعة مع طريق الرياض الدمام. لغتك واستدعاءاتك ممتعة. سلمت يداك.
ردحذفسلمتِ، سعيد بأن أجد من يرافقني على هذا الطريق.
حذفقراءة هذا النصّ تجربةٌ قصوى لفكرة الزمكان. لا أشقّ على الانسان من إخراج نفسه من مكان ألفتِه والنظر إليهِ بعينٍ جديدة؛ لكنّك فعلتها. هذا بحدّ ذاته سفرٌ في شعاب الزمن.
ردحذف