ترجمة مقتطفات من رواية اندريس نيومان.





" .. أولئك الذين يعيشون بلا أطفال يعتقدون بأنهم يمتصونك حتى الجفاف - وهذا ما يفعله الأطفال حقاً، أقسم على ذلك - ولكنهم لا يدركون بأن تلك الطاقة التي يكرعها الأطفال مثلما يكرعون الماء من الحافظة نسرقها منهم بالمقدار ذاته تماماً. الأمر شبيه جداً بالدائرة الكهربائية.

أشعر أحياناً بأن الأمومة ثقب أسود، مهما وضعت بداخله لا يكتفي أبداً، ولن تعرف أين ذهب كل ذلك. وفي أحيانٍ أخرى أشعر بأني مصاصة دماء تقتات على طفلها بالتهام حماسته لكي تتابع إيمانها بالحياة.

ولكن الطفل أيضاً أشبه بصندوق إيداع، وإن بدا ذلك أنانياً. تستثمر فيه وقتك وتضحياتك وتوقعاتك آملاً أن يقرّ لك بالعرفان مستقبلاً. كنت قد تجادلت البارحة مع أختي حين قلت بالحرف: "الطفل عبارة عن استثمار." قالت بأنها فكرة مريعة، لا يمكن أن تُفهم الأمومة من خلال مصطلحاتٍ اقتصادية، ومهما يكن من أمر لا تقولي شيئاً من ذلك أمام ليتو.

ولكني لا أرى الأمر بهذا السوء، فالأطفال أيضاً يضاربون بالحب، ويقضون حياتهم في إجراء حساباتٍ دنيوية: عندما أتصرف جيداً سأحصل على ذلك الشيء، وإذا ما تصرفت على نحوٍ سيء سينتزعونه مني، وإذا كنت لطيفاً مع أبي سوف أحظى بزيادةٍ مالية في بعض الأيام، وفيما لو كنت طيباً مع أمي يمكننا نحن الاثنان أن نفاوضه على تلك الزيادة. هكذا نحن في الحقيقة.

يوماً تلو الآخر تضع بداخل طفلك أفضل وأسوأ ما فيك. وبمرور الوقت تتسائل: هل يلاحظ شيئاً؟ هل سيتذكر؟ هل سينعكس ذلك عليه إيجاباً؟ وبما أنك لست قديساً تتسائل أيضاً: هل يدرك ما تفعله؟ هل سيجازيك على ذلك؟ هل يرغب في رعايتك لاحقاً؟".

---


" .. وكان عليّ أن أتولى مسئولية رماد ماريو، هكذا قال لي الناس، ولكن هل ينبغي أن أبقي عليه؟ والأهم هل يمكن لذلك الرماد أن يكون شخصاً؟ نصف الرماد لكي أكون أكثر دقة! نصفه لي والنصف الآخر لإخوته. يريدون أن يزرعوا شجرة، وأريد أن أنثره في البحر. وفي النهاية قررنا أن نتقاسمه بالتساوي.

سبق وأن تناقشت مع ماريو بخصوص جنازتينا، تحدثنا حولهما عندما لم يكن لذلك أي معنى. وعندما باتت حالته أكثر خطورةً ما عدت قادرةً على الحديث. حتى ماريو بكل غرابة، لا أدري ما إذا كنا اتخذنا القرار أو كنا نتغافل. ربما أراد أن يكون لي الخيار. ولكن هذا يثقل علي، كنت أفضّل الامتثال لوصيته دون أن تجرفني كل هذه الحيرة. حاولت أن أفاتح ليتو بطريقةٍ لطيفة ( لطيفة؟) لمعرفة رأيه. لامستني إجابته وأربكتني لأنه يتفق في النهاية مع عمومته. قال أنه يفضّل الشجرة، لأن جذورها قد تنمو وتكبر أسفل التربة وربما بعد سنوات - في يومٍ ما - يصعد فوقها، فوعدتهُ أن نقوم بزراعة شجرةٍ مع عمه جوانقو.

الشجرة ثابتة، والبحر يعود دائماً. كنت على حق.
ولكن الشجرة تنمو على عكس البحر، لقد كانوا على حق.
ولكن الشجرة تشيخ، والبحر يتجدد من تلقاء نفسه. الحق معي.
ولكن من الممكن أن نحتضن الشجرة أما البحر فيتملص، كانوا على صواب.
ولكن؟

أمس، قدت السيارة طوال اليوم مع نصف الرماد، غبار ماريو على المقعد المجاور، توجهت إلى الساحل في صمتٍ مهيب كما لو أني أنصت إلى أحد الراكبين. أريد أن أتذكر البحر كلما فكرت بماريو. أريد أن أشطف بعيداً تلك الذكريات الأخيرة، وأغسل جسده المريض وأن يغرق ذلك المستشفى الخرائي في الملح.

تأملت البحر بينما أخوضهُ وأفكر في ماريو. ليس ماريو المريض، ولا والد طفلي ولا حتى ذلك الشاب الذي وقعت في غرامه أيام الجامعة. فكرت بماريو بعيداً عني، كشخصٍ لم يلتق بي أبداً. ربما عاش في حياةٍ موازية، وُلِد في مكانٍ آخر - وإن بدا ذلك ساذجاً - وعرفت حينها أن المكان لا يهم وإنما الوقت الذي نمضيه في البحث عنه.

غرست يدي في الرماد، لامسته للمرة الأولى وقد كان أكثر غلظةً وكثافة مما توقعت. وباختصار، لم يكن يشبه الرماد على الرغم من شعوري بأنه قد يحوي بداخله ماريو، رفعت ذراعي ونثرته في الهواء فعاد إليّ، وبينما هو كذلك، لامس وجهي فشعرت بأني قمت بواجبي حتى فرغت كل الرماد فتخيلت أني أزرع البحر. لم يبدُ ذلك محزناً، فقد تناثر ذلك الرماد وتماسكت أجزائي. وخطر في بالي وأنا أغادر الماء بأنه يستطيع السباحة الآن"*


* بتصرف.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".