ثلاث قصص قصيرة..
-1-
لا بد أن مكروهاً أصاب الطائر.
مر يومان على غيابه، ولا أدري إن كان سيعود هذه المرة أم لا. ما كنا نفترق إلا عندما ينصرف أحدنا لشؤونه الخاصة، بل لقد كان يرافقني خفيةً إلى العمل. كنت عشّاً للطائر، ولولا أن الأعشاش لا يجب أن تطير لحلّقتُ بحثاً عنه. كان كتوماً، ربما أحببته لهذا السبب تحديداً، لا يشدو كالكناري، ولكن يطنُّ فقط، كم أفتقد إلى طنينه. وإذا كان الأثرياء يربّون الخيول، ويدلل الأقل منهم ثراءً القطط والكلاب، قلتُ لماذا لا أربّي هذه الذبابة؟ سخرتْ زوجتي كعادتها:
- " وكيف تعرف أنها الذبابة نفسها؟ "
- " لأنها لا تحطّ إلا هنا " وأشرت إلى الجهة اليسرى من رأسي.
- " حسناً، لا مانع عندي، لكن تذكر أن الذباب لا يعيش أكثر من ثلاثة أسابيع."
ياللطيور التعيسة! صرت أبلل تلك البقعة من شعري حتى أسقي الذبابة بل لقد حذرت الحلاق من الاقتراب منها.
لو كنت فقط أنصتُ جيداً إلى طنينها لربما علمت أين هي الآن، ربما وجدتْ عشّاً آخر، تقول زوجتي. أشك أحياناً أنها قتلت الطائر كما قتلت غالا أرنب دالي.
-2-
أقول لك ببساطة إن الحلّ يكمن في الرقم واحد. هذا هو الحلّ، بل هذا هو حلّ كل معضلة تقريباً. لو تمعنت معي قليلاً في دلالات هذا الرقم لغدت هذه الحياة مقبولة بل وحلوة في بعض الأحيان.
أنت واحد مهما فعلت، حتى الاسكندر الكبير واحد، وفي أوقات الخزي تغدو أقل بكثير من واحد، ولك روحٌ واحدة وقلبٌ واحد وقضيبٌ واحد ومؤخرة واحدة - وإن كانت مشطورة بشكلٍ مخجل - ورأسٌ واحد، لا تقاطعني أرجوك! وفمٌ واحد، وأنفٌ واحد، و.. ألا تستطيع الانتظار؟
طيب، أرى جيداً التماعة عينيك وانتصاب أذنيك وفجاجة ذراعيك وساقيك، وأزعم أن لديك كليتين وخصيتين وإن لم أرَها لحسن الحظ. لكن، ألا يمكنك مواصلة العيش بواحدة؟
ركز معي، ما دون الاثنين واحد، لكن ما دون الواحد عدم، لاشيء، نثنق، نينتي، نادا، هل تفهم؟
الواحد هو التوازن، وما عداه اختلال!
تكفيك امرأةٌ واحدة، وعشيقةٌ واحدة، وابنٌ واحد، لا تكن جشعاً وتأتي بأكثر من طفل لأن رجلاً في الشرق أو في الغرب سيصاب بالعقم أو تغدو امرأتهُ عاقر.
خذ الدون جوان مثلاً، ولنفرض أنه يعرف عشر نساء والواجب أن يعرف واحدةً فقط كما أسلفت ويخونها مع واحدةٍ أخرى فقط. في هذه الحالة هناك ثماني نسوة سيترهبنُ بسببهن أربعة أرجال ويتخنث أربعةٌ آخرين.
كلما جاع شخصٌ ما فلأن أحدهم التهم وجبةً زائدة. كلما ألحد شخص فلأن أحدهم يعبد أكثر من رب وهكذا.. هل فهمت؟
- لا.
- لأنك أبله، ويؤلمني ألا أستطيع أن أشتمك أكثر من شتيمة واحدة.
- 3 -
لا يزال ابنه الوحيد نائماً بجوار زوجته، ابنة أخيه، فهو عمّها مرتين. لم تنجب طفلاً لابنه حتى الآن، وعلى الأرجح لن تنجب أبداً فقد مضى على زواجهما أكثر من عشر سنوات. سيبقى أباً فقط ولن يصبح جدّاً حتى ولو تجاوز الثمانين. زوجته أيضاً تغط في النوم منذ سنوات. يقولون إنها لا تزال في الغيبوبة أما هو فيظن أنها سبقته هناك. تزوره في المنام بين الحين والآخر ولكنها لا تتفوه بأي كلمة. تحدق فيه فقط دونما غضبٍ أو رضا مثل العميان.
الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً ولا أحد مستيقظ حتى الخادمة. لا يشعر بالجوع، في هذا العمر لا يشتهي المرء الطعام. من يرغب في تناول طعامٍ يخلو من الملح والسكر وأشياء أخرى. لم يتبول في اليومين الماضيين، كانت مثانته خاوية تماماً، وعندما تجمعت فيها بعض القطرات الصفراء تنبّه من نومه. الحمام بعيد، وعصاه ليست هنا، يتحسسها عبثاً هنا وهناك فلا يجدها ولا يمكنه أن يبحث عنها بعينيه الذابلتين. نادى ابنه أكثر من مرة، ولكنه في الطابق الثاني. فرّت قطرة صفراء وسقطت على ثوبه. ما عاد يطيق الصبر أكثر من ذلك، زحف فوق السجادة الفارسية التي أهداها لابنه. المسافة قصيرة لا تتجاوز ثمانية أمتار، ما أطولها عليه. قطع المتر الأول فالثاني ثم ارتطم كتفه بطاولة، تأوه وانزلقت قطرةٌ أخرى، تابع المشي على أربع، وصل أخيراً، بكى من الأسى أو ربما من الفرح. كان مقبض الباب بعيداً عنه، حاول غير مرة فلم تصل يده الدرداء. استلقى بحسرة وهو ينصت إلى خطوات تدنو منه، لو بكّرت قليلاً لما كانت هذه البقعة.
تعليقات
إرسال تعليق