مدريد أول مرة
عندما زرت مدريد أول مرة حرصتُ على زيارة حلبة الثيران في اللاس فينتاس أكثر من المثلث الفني للبرادو، وما إن هبطنا في مطار بارخاس حتى انطلقت إلى كشك التذاكر.
كان البائع لا يجيد الانجليزية ولا حتى الانجليزية الركيكة التي ادعى ماركيز أنها اللغة العالمية، فعلى حد قوله لو أن أحداً تحدث الانجليزية بشكل مقبول لما وجد من يفهمه. حدثني البائع بالأسبانية ثم بالإشارة وأخيرًا باليورو، أما أنا فركنت إلى كلمةٍ واحدة فقط "لا"، وكم بدت منيعةً مثل حصن. يلوذ بها المرء فلا يقطع وعدًا ثم يخلفه، ولا يفتح بابًا للريح ولا الشيطان ولا الندم. وقد سبق وحذرنا رجال الدين من ألسنتنا التي تقودنا إلى الهلاك بالرسن تارة وبالرائحة تارةً أخرى وأكد على ذلك رجال المافيا بمقولتهم الشهيرة: "الفم للصمت وليس للكلام". ما وُضِع اللسان في الفم إلا ليبقى هناك فإن خرج وقعت الكارثة شأنه في ذلك شأن الرصاص في المسدس، والمسدس في الجراب. ولما طال وقوفي عند الكشك تطوع أحدهم فأوضح أن المدرج نصفه مشمس وتذاكره هي الأرخص والنصف الآخر تحت الظل وهو الأغلى وبينهما بعض المقاعد التي لو صبرت قليلًا سيلحقها الفيء وهي الفئة المتوسطة، وخلصنا يا أخي.
دفعت بالتي هي أحسن مشككًا في مروءة هؤلاء الذين يبيعون الظل ثم قصدت متحف البرادو ريثما تبدأ المصارعة وأطلت الوقوف عند لوحة غويا "الثالث من مايو". كانوا يعدمونهم رميًا بالرصاص وقد استوقفني غويا حين رسم الضحية أطول من قاتله رغم أنه كان يجثو على ركبتيه. انتبهت إلى أن اللوحة قد رسمت قبل مائة عام. قلت لا حاجة للتقويم، من الآن وحتى نهاية العالم كل يوم هو الثالث من مايو ثم طفقت أردد ما قاله بولغاكوف في تحفته المعلم ومارغريتا: "لقد غار الدم في الأرض منذ زمنٍ بعيد، وهناك حيث سُفِح، تنمو الآن عناقيد عنب".
كانت التقاليد الإسبانية القديمة للأحد، أن يقصد الرجل القداس في الصباح، وحلبة الثيران بعد الظهر، والمبغى في الليل. ولا بأس لو تجاوز الأولى أو حتى الأخيرة على ألا يفوت مصارعة الثيران.
عدت إلى اللاس فينتاس، ولما بدأت الجولة الأولى غرز الراكبون على الخيول المدرعة رماحهم في ظهر الثور ومن ثم جاء مصارع الثيران تهتف في صحته الحشود: "أوليه" وأخذ يغرز رمحًا تلو الآخر. قلت هذه منازلة غير عادلة، ليس لأن الثور أعزل، فهو يستطيع أن يقتل بقرنيه أو حتى بقرنٍ واحد، بل لأنه كان يحتضر في الأساس. لم يطمرني العار في هذه الأثناء، حتى حين أعلن السيف نهاية الثور، وتهاوى للمرة الأولى والأخيرة وإلى الأبد، وجرّت عربة الخيول جثته في ثوانٍ قليلة، وكنسوا دماءه الثخينة على عجل تجهيزاً للجولة الثانية، لا لم يكن هذا أفظع ما حدث ولا حتى منظر الثور الثاني وهو يرفض دخول الحلبة، كان قد استدار راغبًا بالعودة. يعيّرون الأسبان مثل هذا الثور بوصفه خانعًا أو خصيّا، فقط لأنه يبحث عن سلامته، وينسون من اخترع الدروع والخنادق والزجاج المضاد للرصاص والعربات المصفحة. كانت هناك دقيقة أو لعلها أقل توقف فيها الثور عن الغضب بل وحتى عن الشعور بالألم، بدا زاهداً في كل شيء وسط صراخ مصارع الثيران ومحاولاته الطفولية لاستفزازه كما لو أنه يقول دون أدنى رغبةٍ في الانتقام: "فلننتهِ من كل هذا".
تعليقات
إرسال تعليق