أرشد جاويد




ثلاثة تحملوني في هذه الحياة: عائلتي وأنا -نعم أنا، من يزعم منكم أنه لا يتحمل نفسه؟- وأرشد الحلاق الذي انحدر من جبال باكستان إلى الساحل الشرقي. كنت آنذاك مراهقاً يحلم بشاربٍ كث يشبه شارب أبي ولكن بعض الأحلام لا تتحقق رغم بساطتها. قلت بعد عشر سنوات الحمد لله فأنا لست أمرد على الأقل.

لكنني أخذت أكدس سخطي على عشرات الحلاقين: عبدالرحيم، وأرشد، وسليم، ومراد التركي، وتيري الانجليزي، وأرشد مرةً أخرى، وسيدة برشلونية تعمل في زقاقٍ غير بعيد من أوبرا ليشيو أوشكتْ أن تقتلع شاربي بأكمله ولما أبديت امتعاضي شتمتني بالكاتلونية أو لعلي كنت أتوهم فرددت عليها بالعربية تحسباً، وحلاقين كثر لا أتذكرهم ولا يتذكروني. 

السيناريو نفسه كل مرة. أخلع النظارة فلا أرى شيئاً حتى ينتهي أرشد من الحلاقة فأطلب أولاً المرآة الصغيرة فالكبيرة ثم أعود للصغيرة مرةً أخرى. امممم قص هنا شوي، شوي بس، كأن هذا أطول، قصّره، مو هذا هذاك حتى أختم بالقفلة المعتادة: "بس خلاص لا تخربه أكثر."

وفي لحظة صدق نادرة تساءلت ألا تكون العلة في الشارب نفسه؟ لكنني أتذكر جيداً أنني خرجت مرةً أو مرتين راضياً عن الحلاقة. هددت أرشد في إحدى المرات بأن أذهب إلى غيره لأنني كنت على موعد ناعم وعلى الشارب أن يظهر ذلك المساء مثل شارب ريت باتلر أو على الأقل أحمد مظهر. وقد نفذت وعيدي وذهبت إلى حلاق تركي لا بد أن تأخذ منه موعداً مثل طبيب الأسنان ثم عليك أن تتحمل كل الترهات حول البشرة والبثور وما إلى ذلك من الهراء وفي النهاية أفسد الملعون شاربي. صرت أحلق بنفسي وسرعان ما عدت إلى أرشد مرةً أخرى.

أرشد لا يأخذ وساوسي على محمل الجد، مع أنها ليست دائماً وساوس. بمجرد أن أجلس على الكرسي الأحمر حتى أكاد أتقمص شخصية يوسف وهبي في فيلم "إشاعة حب" حين يوبخ عمر الشريف "يا عُجري يا نُقري يا ألعبان يا ثعبان ياللي بتجري ورا النسوان". لكن أقصى ما أفعله عندما يخدشني بالموس هو أن أصرخ متألماً كما لو أنه بتر ساقي فنضحك معاً ولا يحدث هذا طبعاً إلا عندما يخلو المحل من الزبائن.

أرشد صديقٌ حقيقي أيضاً، حالما نصبنا خيمة عزاء أبي حتى صرف زبائنه وأغلق دكانه وجلس معنا حتى نهاية اليوم وهكذا فعل في اليومين التاليين. يسألني دائماً عن أخي خصوصاً بعد انتقاله إلى الرياض وقد تفاجئت بشدة حين علمت أن أخي يهاتفه في الأعياد حتى قبل أن يعايد عمي الكبير. 

مررت عليه قبل قليل وكان مشغولاً يستمع إلى تسجيل صوتي فأشار أن أجلس ريثما ينتهي فاستمعت إلى ما يستمع فبدت لي للوهلة الأولى حماسة خطيب أو شاعر، حدست أنه شاعر لأن نغماً لا تخطئه أذن النملة يتردد بين المفردات. 
- تحب الشعر يا أرشد؟ 
- وأكتبه أيضاً.
وعندما رجوته أن يقرأ لي من أشعاره تعذر بعدم قدرته على الترجمة فرجوته أن يحاول فقال سَجَن برديسي هذا مو سجن بوليس فعرفت أنه يقصد الشجن، لكنه عاد ليصحح لي مرةً أخرى سجن برديسي أي سافر حبيبي وأكمل قصيدته فبدا أقرب إلى مدرسة أبولو الشعرية لأنه ردد أكثر من مرة: " لا أدري ما لون قلبك، أسود أم أبيض؟ لكنه حتماً غير نقي."

تعليقات

  1. يا حبيبي يا أرشد ويا حبيبي يا عبدالله .. نص بديع
    صالح الزهراني

    ردحذف
  2. محبة مني ومن أرشد يا صالح

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".