ست الحبايب..
في رأسي راديو قديم ماركة باناسونيك. لا أدري ما لونه، ربما كان أسود، فإذا كان كذلك فلا بد أنه يخص جدتي. كان ينام بجانبها مثل طفل، فإذا انشغل الجميع راحت تلكزه لينقل أخبار العالم.
أدرتُ إبرة الراديو الذي في رأسي ريثما أنتهي من صنع القهوة. كانت فايزة أحمد تغني "آخد حبيبي أنا يمه" وتستحلف أمها ألا تقطف الوردة من قلبها. زعمتْ أن حبيبها هو من غرسها بنفسه، وهذا ما دفع الأم إلى الشك في ذلك البستاني الزائف. لقد انخدعت هي أيضًا من قبل حتى تعلمت أن وردة اليوم هي أفعى الغد. ما كانت لتنجو مرةً تلو أخرى لولا أن للقلب، كما هو شأن القطط، سبعة أرواح. ما إن يخفق القلب حتى يغدو قطة سمينة خرقاء ثم تكون النهاية التي نعرفها.
لم أحب فايزة يومًا، بل لطالما استنكرت محبة الناس لها. ومع ذلك، لم أغير الإذاعة، فقد اعتراني الفضول لمعرفة ما سيحدث بين الأم وابنتها. تبين للأسف أن فايزة سرعان ما فقدت المتبقي من عقلها إذ راحت تغزل مثل بينلوبي طاقية لذلك الغريب. طالت لياليها فبدت مثل ليالي النابغة بطيئة الكواكب أو ليالي امرئ القيس التي شُدت فيها النجوم بحبالٍ إلى جبل يذبُل. وهكذا لطمتُ رأسي فلطم الراديو بداخله فلطم فايزة فسكتت، وهكذا كانت تُسكت جدتي الراديو كل ليلة.
أخذت كوب القهوة، وفي هذه الأثناء انتبهت إلى علاقة فايزة الحميمة بأمها. ألم تُغنِ "يمه القمر عالباب"، ألم تستأذن أمها لتفتح له؟ ما علمنا القمر يطرق غير النوافذ. أسرفت أمها في تدليلها كأنها وحيدتها، كم سيفاجئني ألا تكون كذلك، وقد بلغ بها الدلال أن تعاملها طوال الوقت بالرقة التي نعامل بها المرضى. لم تكتم فايزة في المقابل أي سرّ، بل لقد كانت تحمل أسرارها مثلما يحمل النمل طعامه فتضعها في يد أمها، تلك اليد التي لعبت الكثير من الأدوار: (حذاء، ضمادة، خزانة، طوق نجاة، صالون...).
ركضت إليها مع أول قطرة دم، ثم ركضت مرةً أخرى عندها ارتفعت أعشابها الليلية على حد تعبير نيرودا، لم تُعرف في أيامه، ولا أيام فايزة، عيادات الليزر. ركضت إليها عند أول نظرة ما ورائية، ركضت عندما نجت من أول كلمة غزل طائشة، وركضت إليها عندما أصيبت في المرة الثانية. لقد كانت الأم باختصار كل شيء: الصديقة الكبيرة، الملاك الحارس، السائق والخادمة، البيت والجنينة، والأم أولًا وأخيرًا، ومع أنها كانت تستشيرها في كل خطوة غرامية وغير غرامية إلا أنها لم تنصت لغير نفسها. أكاد أجزم أن أمها لم تضربها أبدا، لم تقرص فخذها ولا أذنها، بل حتى لم ترفع حاجبًا متوعدًا أو نظرةً ساخطة في حضور الناس أو غيابهم. كانت الأم تصلي طوال عمرها ألا يتمكن الهزال من ابنتها، أن يندلع نهداها، ليس بالضرورة على طريقة فهود جاهين، يكفي أن يتقدما قليلًا، أن ترافقها الصحة والسعادة إلى السبعين أو حتى الثمانين. لا غرابة إذن أن تغني لها فايزة: "ست الحبايب يا حبيبة.. ".
رائع. بوركت
ردحذف