فرمان علي




يبيع فرمان الفول في الحيّ منذ زمنٍ بعيد، قبل أن يولد. لا ينسى رغم الشيخوخة أن يضع ربع ليمونة ونصف بصلة و"صباح الخير" في الكيس. تبدو يده العريضة تابعةً لجرّة الفول لا لجسده. أظنه يعود كل ليلة بالجرّة إلى البيت، أو يعود من غير يده، يتركها تنام هناك بداخل الجرّة. تصحو يده الخشنة في الصباح لتطبطب على أكتافنا قائلةً ما عليش. أواظب على زيارته كل جمعة كأنه قبر أبي.

يثير أحدهم اللغط عند الخباز المجاور -إذ لا قيمة للفوال هنا بدونه- فيتلفت الزبائن بفضول وحسرة على زمنٍ كنا نبدي فيه الاحترام الكافي للتميس. ما الذي حدث؟ كان للتميس منزلة كبار السن. أي قاعٍ جديد سنهوي إليه! ما ظنناه قعر الهاوية بدا قمة هاويةٍ أكبر. 

يعودون إلى أطباق الفول، وأعود معهم. الفول على الطاولة والفيل في رأسي. ليس فيلاً واحدًا بالضبط بل اثنين. فرّ الأول من أدغال إفريقيا والثاني من المجاز. قالا بغضبة زوجةٍ شابة وبصوتٍ واحد: "لن نعود أبداً"، وبحكمة الآباء الطاعنين في السنّ مثل لبيد قلت: "لا بأس". ظننت أنهما سيبقيان لبعض الوقت ثم سيذهبان من تلقاء نفسيهما أو تكبّر إفريقيا عقلها وتعتذر فتعود بالأول، ويأتي من أجل الفيل الثاني صلاح فائق ليحمله فوق صلعته أو أيّ شاعرٍ آخر. 

كان الفيل الأول حقيقياً والثاني أيضًا. الفرق الوحيد بينهما أنياب العاج. كان فيل المجاز يحلم بتلك الأنياب. أما الفيل الإفريقي فلا يحلم بأكثر من إفريقيا مجازية يستطيع فيها الوقوف على ذيله مثل الفيل المجازي. كان خفيفاً جداً رغم السمنة. كلما خفقت أذناه طار ضاحكاً في الهواء. عرض فيل المجاز أن يعلمه الطيران مقابل نابٍ واحد. بدت الصفقة مشبوهة كما لو أن هذا الفيل ليس أكثر من ثعلب. يسألني النصح فأجدني غير قادرٍ على مساعدته. أعده بالحديث لاحقاً وأركب السيارة.

أستمع إلى الراديو، أدين له قبل غوغل وبعده. لطالما كان أعظم المسارح، الأغاني حيّة تماماً مثل أسماك فإذا قصدت اليوتيوب أو الساوندكلاود وجدتها أسماكاً ملوثة. أقلّب القنوات كلها فأجدها تذيع فريد الأطرش كما لو أن ألبومه الأخير قد صدر للتو. يبدو أنه ما زال يغني في العالم الآخر. بلغ الآن عمره هناك ٤٤ سنة! أتذكر الجرائد هنا قبل غوغل حينما كانت الحقيقة رهن خيالات الكتّاب. قال أحدهم إن الأطرش قد أوصى أن يُدفن عوده معه فإذا صدق فلا بد أنه قد غير الأوتار. لكن ما هذه الأغنية؟ بعد "الربيع" و"أول همسة"! لعله كان مفلساً أو لعلهم يعانون هناك أيضاً من أزمةٍ مالية، بل وربما من الاحتباس الحراري. أحاول أن أدندن مع فريد، صار للأسف يغني مثل ملحم بركات. "صالحني وسلم بيدك.. " هل أغضبتَ سامية جمال مرةً أخرى؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".