المشاركات

عرض المشاركات من يوليو, 2025

جدّتي

صورة
رحم الله جدّتي. اعتمرتُ عنها صبيًا في رمضانٍ بعيد، ولما عدت وأخبرتها تباشرت وضحكت. تحسّستْ وجهي الصغير إذ كانت عمياء إلا قليلًا، ثم طبعت عليه قبلةً طويلة، واحتضنتني فغمرني الريحان -كأني أشمّه الآن- حتى كاد يخنقني. كانت جدّتي لأبي تحتفظ بشتلات الريحان اليانعة فتشمّ أزهارها البيضاء والبنفسجية بين الحين والآخر ثم تضعها إلى جانب وسادتها بجوار الراديو والأدوية. وكان الريحان في ذلك الزمن يعرف طريقه لمداخل بيوتنا -أين ذهب اليوم؟- فليس علينا إلا أن ننزعه قبيل الدخول ونقدّمه لها فتتنشقه حتى تخلع عنها سنواتها السبعين فتعود طفلةً بجديلتين طائرتين أو شابّةً بجديلةٍ باسمة. لقد كان الريحان في زمنها طيب المرأة. أما الرجل فكان يخرج بالعود والبخور ويعود بالعرق والسخام. وما كان ذلك يدعو إحداهنّ للقرف، بل لقد كان موضع تقدير لكدّ الرجل وشقائه إذ ما خرج من بيته لينعم بالظل والنسيم حتى لقد ذاعت كلمةٌ لإحدى العجائز تقول فيها: "ليس الرجل برجلٍ ما لم يكن مُشعِرًا ومُصِنًّا". العرق شهادة على ساعده العامل طيلة النهار أما الشَعر الغزير فلعله عائدٌ إلى الحدود الواضحة بين الجنسين في ذلك الزمن، أو لعله مزا...

الكلام بصوتٍ خافت

صورة
  غمزة الغمزة برقية إعجاب عاجلة. تُقرأ بلا كلمات وتُحرق في الوقت نفسه مثلما تُحرق الرسائل التي تهدد حياة حاملها. نبضة كهربائية تصعد من القلب إلى العين ثم إلى العين المقابلة لتنحدر في القلب فينبض مرتين. مزيجٌ من رمية حرة لكرة سلة وسقوط طفل من السطح إلى شبكة الإنقاذ التي يمسكها الجيران. غمزة واحدة فقط، ذلك أنها ابنة الحذر والزحام. عين مفتوحة وأخرى مغمضة. الثنائي الكلاسيكي؛ صانع اللعب والهداف، القبلة والشفتان، الأعمى والعصا، اللص وشريكه المراقب، الجندي ورفيقه الذي لا بد أن يغطي حركته تحت وابل من الرصاص. إن إخفاق أحدهما يؤدي بالضرورة إلى فشل الآخر. والغمزة لا تُردّ بالغمزة! إنما يفعلها المهربون بكشافاتهم على متن زورقين سريعين في عرض البحر، أو بأنوار شاحنتين رابضتين في شارع جانبي معتم. لكنها تُردّ برعشة صغيرة في زاوية الفم. لو فُحِصت بالمجهر لرأينا الضحكة الواسعة وسمعناها أيضا. تلويحة عناقٌ ثم نظراتٌ دامعة ثم تنطلق صافرة الرحيل. تتشبث المرأة بالرجل وتستبقيه قليلاً، وحين يتململ تفلته فيركض للحاق بالقطار أو الباخرة. يركب في اللحظة الأخيرة وحين يلتفت يجدها تلوِّح بيدها فيردّ التلويحة ويغيب...