المشاركات

عرض المشاركات من 2022

ما يراه عزت القمحاوي

صورة
لا ينتبه أكثرنا حين تسقط ورقة من شجرة، وهو أمر لا يستغرق أكثر من بضع ثوان، فإذا انتبه أحدنا قال إنه الخريف. أما القمحاوي عزت فلا يرى الورقة أو تبدل الفصول إنما يرى البذرة فالجذور فالجذع حتى يكاد يلمس براحته اللحاء الخشن، فالنسغ فالأوراق، ولربما لمح بينها بارون ايتالو كالفينو أو هلال رينيه ماغريت، فالندى فالأزهار فالظلال تحرس خلوة عاشقَين أو قيلولة هارب، فالغابة، فالفأس أو الحرائق ولربما تناهت إلى سمعه أثناء ذلك فصول فيفالدي الأربعة. فإذا لم تسقط على الرصيف ورقة من شجرة، أو كان الشارع بلا أشجار، سقطت من المارة نظرة كابية مثل حصاة صغيرة، أو تأتأة ساقٍ تجاهد لتتقدم خطوةً أخرى، أو رعشة خفية لسماع سارينة الشرطة من بعيد. يرى القمحاوي عندئذ ذلك الحصى الخفيّ يتكوم على الأرض شيئاً فشيئاً آخذاً في الارتفاع حتى يصنع تمثالاً للطاغية. يتبع بعينيه التمثال إذ راح يسير متثاقلاً إلى الميدان ليقف رافعاً يده الحجرية في تلويحة هي أقرب إلى التهديد منها إلى التحية ليخطب طوال ثلاثين سنة في الناس والشمس والهواء والنجوم والطيور التي تتخذه مرحاضاً. لئن كان سامي يعقوب -أحد أبطال القمحاوي- يسبق الغيب بخطوة فيرى ا

طريق الدمام - الرياض السريع

صورة
لو كان لحياتي طريق لما كان غير طريق الدمام الرياض السريع. قطعتهُ أول مرة وأنا في ظهر الغيب، ثم في ظهر أبي، فبطن أمي، فيديها، فالكرسي الخلفي، فالأمامي، فكرسي السائق. قطعتهُ خاطراً، وأملاً، وجنيناً، وطفلاً، ورجلاً. يبلغ طوله قرابة الأربعمائة كيلومتر، وإن كان لا ينتهي في العاصمة إذ يمضي بعدها الطريق رقم ٤٠ حوالي ألف كيلومتر فيجتاب الفلاة بعد الفلاة ويشج الآكام حتى يقطع المملكة بالعرض واصلاً شرقها بغربها. ثلاث مسارات في كل اتجاه، رُصِفت بالحصى والإسفلت وأغاني محمد عبده، يخاصرها السياج واللوائح الكيلومترية الزرقاء وكاميرات السرعة. أسافر مع عمود الصبح -وعمود الصبح أول نورٍ من الفجر- فالطريق في النهار غير الطريق في الليل إذ لطالما وحّد الظلامُ الطرقَ وفرّقها النور. أملأ سيارتي بالوقود في الليل ولو كانت ناقة لمنعتها الماء بضعة أيام كما كانت تفعل العرب ثم أطلقتها لترِد من شدة العطش ما يعينها على مسيرة أربع ليال إذ لن تشرب بعدها إلا من عين آثال في صحراء الدهناء. أقطع بسيارتي الطريق في ثلاث ساعات فلا أتوقف أبداً امتثالاً للحكمة التي تقول إن: "المسافر عليل ودواه السفر". كنت في العاشرة حي

جُحر كارول

صورة
  حين زرت برايتون أول مرة سألني سائق التاكسي الانجليزي ما إذا كنت أعرف تشارلز دوجسون، ولما نفيتُ بحركةٍ من رأسي قال وماذا عن لويس كارول؟ فاندفعت قائلاً أعرفه بالطبع. أشار عندئذٍ بيده إلى إحدى الشقق العلوية البيضاء ليخبرني أن دوجسون أستاذ الرياضيات في أوكسفورد أو كارول كاتب قصص الأطفال كان يقضي الصيف هنا. كان دوجسون قساً وكاتباً وسياسياً وشاعراً ومخترعاً وعالم رياضيات. وإذا كان الزمن قد طمس كل ذلك متعمداً أو عن غير عمد فإنه لم يطمس حتى الآن اختراع كارول الأشهر "أليس في بلاد العجائب". بحثت في غوغل -وغوغل عميلٌ مزدوج- فوجدتُ إعلاناً قديماً لبيع الشقة التي أقام فيها كارول. كان مالكها يطلب أكثر من ثلاثة ملايين جنيه استرليني في البيت الذي يقال إن كارول كتب فيه مخطوطة أليس. ثم قرأت خبراً عن بيع الشقة فيما بعد بسعر أقل من ذلك بكثير. أرجو ألا يكون المشتري أحد الكتّاب الجدد. قرأت في موقعٍ آخر أن لويس كارول كان يقضي وقته في الحديقة المقابلة. ثمة نفق سري في الحديقة يقود إلى البحر وهو على الأرجح ما ألهمه بفكرة جحر الأرنب. مضيت بعدها أبحث في البيت وأدور حوله حتى وجدت اللافتة البيضاء التي ت

ليلى وغادة..

صورة
كانت ليلى في الخامسة من عمرها تسمّي اليوم "أمس" أما غادة التي تصغرها بسنتين فتسمّي اليوم "بكره". هل تعجلت ليلى فتدافعت نحو المستقبل أم تريثت غادة وراحت توازن خطوتها؟ بدت الصغرى في عين الأب أكثر فطنةً وحذراً من الكبرى وهي تدخر منذ الطفولة أغلب اليوم فلا تقتات منه إلا القليل، في الوقت الذي أضاعت فيه ليلى يوماً ثميناً من عمرها وصار لزاماً عليها أن تبحث عن اليوم المفقود كل صباح. لو أن أحداً سرقه منها لخرج أبوها وقتله وعاد يحمل يومها على كتفه. سيغسله أولاً حتى تذهب عنه دماء السارق ثم يعيده إليها مؤكداً أن تحفظه جيداً هذه المرة. أما إذا كانت قد وهبته من نفسها فقد وهب جدّها من قبل قطعة أرض لأحد الأقارب وعاش طيلة حياته لا يملك بيتاً أو حتى قطعة أرض.  لو ظلتا متحابتين كما هو الحال الآن فلا بد أن غادة ستقاسمها ساعات اليوم حتى آخر عمرها كما تقاسمها ليلى الشطائر والحلويات. كان الأب قد سألهما يوماً أن تمنحانه بعضاً من حبات الفشار فملأت كل منهما راحتها الصغيرة بطيبة نفس. ولما قارب الفشار على الانتهاء -والمرء يمنح في السعة لكنه يتردد عند الضيق، ولهذا يسبق الدرهم ألف درهم- قال أبوه

اغتيالات..

صورة
  لا يُسمح في بريطانيا بالدخول إلى متجر الأسلحة أو الخمور أو الألعاب الجنسية قبل بلوغ السنّ القانونية، وقد بلغتها منذ زمن بعيد، بل بلغتها مرتين قبل أربع سنوات. نظرياً يمكنني الدخول إلى متجرين في الوقت نفسه لو استطعت تقسيم جسمي. سيكون حاصل القسمة عندئذ شابّين طائشين في الثامنة عشرة من العمر، وطفل صغير ابن أربعة أعوام. آمل حينها ألا يدخل الشابان إلى هذه المتاجر، أو على الأقل ألا يدخلا معاً وينسيان الطفل في الخارج فيخطفه أحدهم أو يضيع. أضحكتني الفكرة وذكرتني بضرورة أن يبقى المرء واحداً فهو بذلك يحافظ بالكاد على نفسه. كنت قد خرجت في جولتي اليومية فمررت بتلك المتاجر الثلاثة وظللت أمشي اليوم بطوله تقريبا. ولما عدت كان الليل قد تقدم فوقفت في البلكون أتأمل العمارة البعيدة وأنوارها التي راحت تنطفئ شيئا فشيئا. لمحت في إحدى النوافذ خيال رجل يحمل حقيبة على كتفه، وخمنت أنه يتهيأ للرحيل في هذه الساعة المتأخرة تجنباً لمواجهة رفيقته التي تنام الآن. ربما كتب رسالة يقول فيها "انتهى كل شيء" أو "سئمتُ كل شيء". لا بد لرسائل الرحيل من صيغ قاطعة كهذه. وربما يضيف سطراً حتى لا يحمل الذنب كل

الرسام ومخلوقاته - أنتونيو تابوكي

صورة
  الرسام وحيد، وحيدٌ تماماً في شقته المتهالكة. لا قطة عنده، لأنه يريد البقاء وحيدا. الوقت ليل، والمدينة نائمة. والمطر خلف الشبّاك حَجَبَ أنوار الشارع. تحضّر الرسام للقاء مخلوقاته. على الطاولة كؤوس وقناني نبيذ. لا يدري من سيأتي الليلة من مخلوقاته، أيهم سيمثل لاستدعائه. وضع الرسام أوراقه كما توضع المحارم. ثم رتّب ألوانه المائية على الطاولة، وراح يخففها بالماء في صحون صغيرة كان قد أعدّها بجانب الأوراق مثل طعامٍ سحري. لقد مزج غالباً اللون الأزرق بالأخضر الشاحب والوردي العتيق. كان قد جهّز أكثر من لونٍ أزرق: السماوي، والداكن، والبرّاق، والليلي. سيخلط بعد ذلك الوردي الحليبي مع القليل من اللون الأزرق. لطالما كان يفضّل اللون الأزرق لعلمه بأن المخلوقات التي ستزوره مخلوقات ليليّة، من فضاءٍ يتوسط النجوم. أشعل الإضاءة، ارتشف النبيذ في صحة زواره الذين يوشكون على الوصول. تقدم الليل في هذه الأثناء، وفي الخارج يمكن سماع وقع خطوات بين الحين والآخر كأن شخصاً يمر في الشارع. ولكن هذه ليلة متوسطية حافلة بالمطر والرياح الشرقية. ونحن في مدينة متوسطية، وإن كان الرسام قد اعتاد على الإقامة في شمال أوروبا حيث الس