ليلى وغادة..


كانت ليلى في الخامسة من عمرها تسمّي اليوم "أمس" أما غادة التي تصغرها بسنتين فتسمّي اليوم "بكره". هل تعجلت ليلى فتدافعت نحو المستقبل أم تريثت غادة وراحت توازن خطوتها؟ بدت الصغرى في عين الأب أكثر فطنةً وحذراً من الكبرى وهي تدخر منذ الطفولة أغلب اليوم فلا تقتات منه إلا القليل، في الوقت الذي أضاعت فيه ليلى يوماً ثميناً من عمرها وصار لزاماً عليها أن تبحث عن اليوم المفقود كل صباح. لو أن أحداً سرقه منها لخرج أبوها وقتله وعاد يحمل يومها على كتفه. سيغسله أولاً حتى تذهب عنه دماء السارق ثم يعيده إليها مؤكداً أن تحفظه جيداً هذه المرة. أما إذا كانت قد وهبته من نفسها فقد وهب جدّها من قبل قطعة أرض لأحد الأقارب وعاش طيلة حياته لا يملك بيتاً أو حتى قطعة أرض. 

لو ظلتا متحابتين كما هو الحال الآن فلا بد أن غادة ستقاسمها ساعات اليوم حتى آخر عمرها كما تقاسمها ليلى الشطائر والحلويات. كان الأب قد سألهما يوماً أن تمنحانه بعضاً من حبات الفشار فملأت كل منهما راحتها الصغيرة بطيبة نفس. ولما قارب الفشار على الانتهاء -والمرء يمنح في السعة لكنه يتردد عند الضيق، ولهذا يسبق الدرهم ألف درهم- قال أبوهما ألا تعطياني ثانية؟ فقالتا في نبرةٍ لائمة إن عليه أن يتمهل في الأكل -لا بد أنها تعاليم الأم- وكان نصيبه هذه المرة نصف راحة صغيرة. لم يأكل الفيشار بل لقد أخفاه عنهما إذ كانت الذرة تفعل في أسنانه ما تفعل الهواجس في النعسان، وحين ردّ إليهما الفشار صرختا صرخة تقول لقد خدعتنا يا بابا. ربما كانتا ستضيفان صفة المكار لكنها لم تدخل بعد معاجم الطفولة.  

تنام ليلى وغادة الآن على مفارش أرضية كما كان ينام أبوهما في طفولته. يحرس مناماتهما كما تحرس الأم يقظتهما في مناوبات حراسة غير عادلة. ليلى أقرب إلى الجدار وإلى يمينها غادة. تتقلبان بالطول والعرض، وحين تستيقظان ستتركان أثراً يشابه إلى حد كبير تشريحات دافينشي. كان العبقري الإيطالي مهووساً بالنِسب، وقد رسم الذراعين الممدودين للرجل بحيث تعادلان طوله، والذراع بحيث يساوي عرض ستة كفوف، وراح يستخرج ما عرف لاحقاً بالنسبة الذهبية أو الكونية والتي عرفها القدماء ولعبت دوراً أساسياً في المعمار القديم والحديث. على أن فراش الطفلتين بعد الاستيقاظ يقيس نسباً أخرى، متغيرة وليست ثابتة، تقترب من الأحلام والروح لا من الواقع والعقل ولأنها كذلك فستندثر سريعاً حالما تكبران ولا جدوى من تدوينها إذ لن يصدقها أحد. يخطر في بال الأب أنهما تلعبان حتى أثناء النوم، ويخطر أيضاً أن الكبار ينامون مثل جثث هامدة فلا توقظهم إلا الكوابيس أو كعوب البنادق. آه كم تمنى العمل في تهريب الطفولة. ليت الذاكرة تدخرها كاملةً حين نشيخ. 

أحب طفلتيه أكثر أثناء النوم، ما أشد براءة الطفلتين وعجزهما. ستصحو غادة غالباً قبل ليلى وهذا ما يؤكد فطنتها وحرصها لتلملم ما بعثرته أختها الكبيرة. تغص روح الأب حين يتذكر أن أباه لم ير طفلتيه. يهدئ نفسه بقوله حسب الأبناء من البر ألا يموتوا قبل آبائهم. يا للخسارة، وإن كانت خسارة الطفلتين أكبر بلا شك. كان يتأمل صور والده حين دخلت ليلى وارتمت كعادتها في حضنه ولما سألها هل تعرفين من هذا؟ قالت لا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..