كان فجرًا باسمًا
هذه مشاركة عن أم كلثوم في عالم الكتاب. دعاني الصديق شريف صالح للكتابة في خمسينيتها، ولما هممت بالاعتذار كانت الستّ تغني "كل ليلة وكل يوم" في المذياع. قالت في عتاب: "بستنّى منك كلمتين مش أكتر". قلت أبعت كلمتين يطمنّوها على المحبة واحترت في أمر هاتين الكلمتين فلكل واحدٍ منا ما يقوله للستّ وما لا يود قوله. قلت مثل ما قال رامي كان فجرًا باسمًا في مقلتيّا. تبدو افتتاحية مناسبة لرواية حب لكنها تناسب العنوان أيضا.
(كان فجرًا باسمًا)
لم أعرف من الموسيقا في زمن الطفولة سوى اسمها. كانت أمي توصد دونها الأبواب فإن سقطت نغمةٌ آثمةٌ من التلفاز أو نغمتان سارعَتْ إلى كنسها خارج الصالة. لا موسيقا في هذا البيت تقول عصا المكنسة في يدها. أما أبي الذي كان يجيد العزف على أكثر من آلة موسيقية فقد انهمك في لعب الشطرنج مع الزمن الذي راح يجرده شيئا فشيئا من تجارته وأصدقائه وعافيته حتى صارت حاجته إلى حصان أو بيدق أكثر من حاجته إلى الموسيقا.
وهكذا عاشت أذناي في البرية، في الهواء الطلق، على الفطرة. لا مدارس ولا كتاتيب حتى صادفتُ الستّ. كنت عندئذ قد بلغت سن المراهقة، ذلك السنّ الذي يجب على الفتى أن يعود فيه إلى البيت وفي يده كيسٌ من الآلام أو جرّة من الغراميات المستحيلة كما يعود أبوه إلى البيت بكيس الخبز أو جرّة الغاز.
كانت أول أغنية سمعتها للست هي "إنت عمري". والأعمار أكثر ما يبذلها الناس في الشباب والأغاني. وكان الفتى يومئذ يملك من الجرأة والوقاحة ما يدفعانه لمسامحة الزمن أخيرا، "سامحت بيك الزمن" وكان الزمن يمطّ شفتيه. أقول لنفسي اليوم ربما كان الشباب ألا نخاف، وفرةً في الشجاعة والجهل.
تعلّمت عزف المقدمة الحالمة لأغنية "إنت عمري" أول ما تعلمت في معهد الموسيقى بعمّان لكن كوبليه الرست في الأغنية هو أكثر ما شدّني يومها. "هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيا.. هات إيديك ترتاح للمستهم إيديا". يا له من نداء استغاثة رفيع. أُخِذت في زمن بعيد بتعلم اللغات. كلما تعلمت لغة أجنبية بدأت بتعلم كلمات الحب، ثم انصرفت إلى لغة أخرى. ولما سخر صديقي قائلاً: "ألا يجب أن تبدأ بحفظ كلمات أخرى؟ تعلم مثلاً كيف تطلب النجدة." قلت "هذا ما أفعله بالضبط".
سرعان ما وقعت أمي على شرائط أم كلثوم التي خبأتها تحت سجادة غرفتي، ولو دفنتُها تحت الأرض لوقعتْ عليها بحدس الأمهات الذي يتفوق على كاشف المعادن. قالت ستحطمها، قلت سأشتريها من جديد. ولّت غاضبة وظنت أني سأتعلق بأستارها كالعادة. كنت من الأولاد الذين لا يتحملون زعل أمهاتهم دقيقة واحدة. أتبعها من الصالة إلى الفناء فالمطبخ ثم إلى غرفتها. أتوسلها أن تسامحني. تقفل الباب فأطرقه متعهداً ألا أخطئ مرة أخرى. كم تمنيت لو تضربني وينتهي الأمر لأن صمتها -مع أنه لا يدوم طويلا- كان يؤلمني أكثر. لكنني في ذلك اليوم تركت أمي تمشي وحيدة عملاً بنصيحة أحد الأصدقاء. نمت وذهبت في الصباح الباكر إلى مدرستي المتوسطة دون أن أقبّل رأس أمي أو حتى أحييها تحية الصباح. كادت تجن. أتذكر صدمة أبي من تلك القسوة وتوبيخه الشديد حال عودتي من المدرسة. سامحتني أمي -وهل تملك الأم غير ذلك؟- وأعادت أشرطة الست، لينعم بعد سنوات أخي الصغير بحقه في سماع الموسيقى من غير نضال. ليس بعيدا عن الصحة ما يقال عن الثورة التي يقودها الشجعان ويجني ثمارها الجبناء. ما تركتُ سوى ذلك اليوم جبين أمي من غير قبلة طويلة. لو عاد بي الزمن لما فعلتها. لو عاد لسددت لكمةً أغلقت عين صديقي الملعون وحولتها إلى كعب قدم جانبي. لو عاد -طالما فُتِح باب الأماني- لمضيت إلى زمن بعيد لم أعشه. ما كنت لأتدخل في التاريخ وأغير شيئاً من تحولاته الكبرى كما يتمنى الواهمون لأن التاريخ سيلتف ويسلك مسارا آخر يؤدي إلى النتيجة نفسها، لكنني سأُلح على السنباطي أن يضيف (ليه) رابعة في "جددت حبك". ما سمعتها إلا وأضفتها في الحال إذ لا تكفي الحرقة في رأيي أن ترددها الست ثلاث مرات فحسب.
كان هذا ثاني كاسيت أشتريه للست بمصروفي اليومي. صِمتُ أسبوعا كاملا عن الإفطار في المدرسة حتى أجمع عشرة ريالات ثمن الشريط. كلما قدت سيارة أبي للدكان البعيد نسيت نفسي وسمعت "جددت حبك" كاملة. حتى إذا عدت عاتبتني أمي قائلة: "يا ولدي لو سرت على قدميك لما تأخرت كل هذا الوقت". والست مسؤولة قطعا عن كل المواعيد التي تأخرت عنها في حياتي وعن محاضرات الجامعة التي أهملتها كذلك. كانت إذاعة أبو ظبي يوم كنت طالبا آنذاك تذيع أغنياتها في الواحدة ظهرا وتعيد الأغنية نفسها في الحادية عشرة ليلا، وكانت تذيع كل نهار جمعة "القلب يعشق كل جميل". غامت عيناي عند كتابة هذا السطر.
أتذكر ما قاله عبادي الجوهر في مجلة قديمة يوم كنا نقرأ المجلات. قال إن الست غنّت كل حالات الحب، وأحسب أني أتفق معه تماما. علمتني الستّ -بمعية رامي طبعا- كيف أحب وكيف أغازل وساعدتني أكثر من مرة والحق يقال -فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله- في الإيقاع بحبيبة أو حبيبتين ثم علمتني بصعوبة كيف أنتظر، ولم تنس أن تعلمني أيضا كيف أتلذذ في الانتظار وكيف أجفو وأسلو وإن كنت أشك أنني تعلمت هذه الأخيرة.
وفي تلك الأثناء رفع أبي رأسه من رقعة الشطرنج فرأى شاربا أخضر فوق شفتي طفله الصغير. لقد كبر ابنه وصار يسمع الموسيقى بل ويستعرض معلوماته الفنية. صرنا أصدقاء نسافر معا ونسمع أغاني أم كلثوم في الطرقات الطويلة، وكانت أغنيتنا "سلوا قلبي" لشوقي. ما أكثر ما يكلفنا أمير الشعراء سؤال من لا يتكلم؛ سلوا قلبي، سلوا كؤوس الطلا،... وكان في عائلتنا الكبيرة شيخٌ مهووس بأم كلثوم. ندعوه العمّ أحمد. ما يزال اليوم حيًا يطاعن التسعين وتطاعنه. يلهج بأغانيها طوال الوقت. يقول كلما سمعتها لا أصدق أنني بلغت هذا العمر. في داخلي -ويشير إلى قلبه- لا أشعر أني تجاوزت الخامسة والعشرين. كان قد علق صورة أم كلثوم في مجلسه العريض، وإلى جانبها صورة عبد الناصر. كم حدثنا عن الحفلة التي حضرها للست في بعلبك. يقول إن ثمن التذكرة يومها بلغ في السوق السوداء قيمة قطعة أرض -لطالما كان يبالغ ولكم أحببت مبالغاته- ولما اشتراها ظل يشرب ويشرب حتى سكر ودخل الحفل فرآها وصرخ صرخةً أغشي عليه بعدها. استيقظ بعد ثلاثة أيام في المستشفى وما إن فتح عينيه حتى راح يسأل عن أم كلثوم كمريض يسأل عن شربة ماء.
حفظت أغانيها كلها تقريبا عن ظهر قلب. أبقيت على اثنتين فحسب أو ثلاث تحسباً للمستقبل. عملت حسابي عندما سمعت كبار السنّ يقولون إن الضجر لا يطاق هناك. وكانت لأذني في زمن الجامعة شعبية هائلة إذ كانت تلتقط على الفور كل نغمة من أنغامها. وما كان يلزمني لمعرفة الأغنية -ولا أبالغ كما يفعل العمّ أحمد- أكثر من نصف دقيقة أستمع فيها إلى الموسيقى. ولما سافرت للدراسة في الأردن خرجت في ليلتي الأولى لأتعرف على البلدة الصغيرة. سمعت صوت أم كلثوم يتهادى من بعيد قادماً من عربة الشاي. تبعت "رباعيات الخيام" مقطعاً تلو مقطع، وشارعاً تلو شارع مثل مخبر، ثم غنت "نهج البردة" فتبعتها كالسائرين نياما حتى توقفتْ أم كلثوم عن الغناء ووصل بائع الشاي إلى بيته. تلفتُ يمنة ويسرة فإذا أنا غريب وضائع. لقد ضيّعتني الست. لو غنيت الرباعيات لربما أخذت بيدي إلى البيت. عدت طبعا ليلتها ولا أتذكر كيف. لا يسأل الثمل نفسه حين يستيقظ هذا السؤال.
تعليقات
إرسال تعليق