عن الخيال: أول ألعاب الطفولة.
نمت مبكرا قبل رأس السنة. شددت اللحاف فلم يظهر مني إلا ما يظهر من رأس التمساح في النهر. أقفلت الباب خوفاً من اللصوص، والشبّاك خوفاً من الإنفلونزا، والأنوار خوفاً من فاتورة الكهرباء، والفرن خوفاً من الغاز، وعينيّ خوفاً من مخاوف جديدة.
زرت قبلها أمي، رأس الحياة نفسها. قلت ممازحاً ألا تستطيعين يا أمي أن تتذكري عنوان أمارا؟ قالت دعني أتذكر أولاً من تكون أمارا. قلت مُربّيتي التايلندية. أريد أن أرسل لها هدية بمناسبة السنة الجديدة. ضحكت أمي -وما سألتها إلا لتضحك- قالت من تظن نفسك؟ لقد جاءت لتساعدني في أعمال المنزل حينما مرضت ولم تقم معنا أكثر من شهرين. كانت العاملة الوحيدة التي جاءتنا بحقيبة كبيرة ليس فيها غير المكياج. لم تخدم في البيوت من قبل، إنما جاءت لتجمع ثمن التذكرة إلى أمريكا لتشارك في مسابقات الجمال. لقد كانت مربيتي ملكة جمال إذاَ. غضبت أمي هذه المرة، وسخرت قائلة: صحيح لكنها لم تكن مربية فحسب بل لقد أنجبتك أيضا وتركتك عندنا. ضحكتُ هنا بصوت عال وتذكرت قدرتي اللئيمة على تحوير القصص بتعديل صغير في الشخصيات والأحداث يجعلها تختلف تماما عن أصلها.
ما يزال ابن خالي يمتعض من افتراءاتي القصصية التي ظلت تطارده منذ صغره كضياعه في الحرم المكي وبكائه الحار يوم كان طفلا. كانت لأسطورة الضياع في الحرم آنذاك رهبة شديدة في نفوس الأطفال والأمهات كذلك. أن يُخطف الطفل ثم تُقطع أطرافه ويعود بعد سنوات متسولا عند الحرم نفسه. تلك أسطورة لم تخلُ من الحقيقة تماما. لم أعثر على ابن خالي يوم ضاع لأننا كنا معا أصلا. كنت الأكبر -وإن كنت طفلا مثله- فانشغلت عن البكاء بتهدئته. عثر علينا خالي الكبير وبادرنا بالصفعات لأننا أفلتنا عباءات أمهاتنا وقطعنا عليهنّ العمرة. وقد تلقينا تلك الصفعات بالفرح والضحك لأن أطرافنا سلمت من المنشار ولم نعد في حاجة إلى مزاحمة المتسولين. كم شبهني ابن خالي هذا بعمتي العمياء هيلة. كانت تحيل أي قصة ميتة أو خبر تافه إلى سلاسل من الحكايات الطريفة والملاحم العظيمة، وكم اشتكت جاراتها من مجلسها لأنها تلوي البطون من شدة الضحك بل وتدفعهنّ إلى التبوّل. كانت تشكو من كل الأمراض ومع ذلك تضحك. تتداوى بالضحك. كم آلمني أن أراها عابسة في زيارتي الأخيرة، وإلى جانبها تلٌ صغيرٌ من الأدوية. أحاول عبثا تذكيرها بالضحك فتقول يا ابن أخي ما عاد شيء يُضحِك في هذه الدنيا.
لعل المربيّة التايلندية والحصان الأدهم الذي لم أمتلكه قط كانا من أكاذيب المراهقة يوم رحت أصف لحبيباتي طفولتي الارستقراطية. لم أعرف في ذلك الزمن عن الطبقات الاجتماعية غير الطبقة المستورة التي كنا جميعا ننتمي لها. حلّت الكذبة أو المزحة مكان الحقيقة بمرور الزمن وكثير من التغاضي واستدارة الظهر. أو لعلي كنت أتخيل؟ وأنا متخيل كبير يمشي على خطى متخيلين عظام كخوان ميّاس وأحمد رامي. لطالما تمنيت أن أكتب مقالا يوضح بالتفصيل ما يجمع القاص الأسباني المعاصر بالشاعر المصري الراحل. أما مياس فأبطاله يتخيلون على الدوام دونما حاجة إلى كأس أو سيجارة ملغومة أو جنون. القصة عند مياس ما يحدث في خيالات أبطاله. لو حذفنا تلك الخيالات لما بقي في قصصه قصص. أما رامي يا عيني فالحب عنده خيال. يسهر الليالي بالخيال فيمتلك محبوبته "واجعلك فيها نديمي واملكك ليلي ويومي". وقد اعترف بملء لسانه في (رقّ الحبيب) أنه يعيش في الخيال وليس لأحد سلطان عليه حتى الزمن. "وأيه يفيد الزمن مع اللي عاش بالخيال". ذلك أنه يتصرف بالزمن نفسه ويلعب بالماضي والحاضر والمستقبل فيكور الأزمنة بيده ويطيّرها في الهواء مثل ثلاث برتقالات. ما لم يصدر في حقه أمر قضائي من المحكمة أو يطرق عليه مالك الشقة ليطالبه بالإيجار المتأخر فلن يعود رامي إلى الواقع وسيبقى هناك في الخيال. سأجازف وأقول إنه عاش سعيدا ومن يشفق عليه من خيالاته ومن جفوة الست هو الجدير بالشفقة.
قلت لأمي هل تذكرين القنفذ؟ أم أني أتخيل أيضا؟ أليس غريبا أن تهدياني قنفذا عوضا عن البلابل الصفراء أو السمكات الحمر؟ ضحكتْ وقالت لم يكن هدية. لقد وجد باب بيتنا مفتوحا فدخل. كان أبوك يتركه مفتوحا للضيوف. ظل عندنا يوما أو يومين. لم يأكل أي شيء. وضع أبوك له كل ما في الثلاجة لكنه بعزيمة الصائمين رفض حتى أن يتذوقها. خرج كما دخل من الباب المفتوح لكنه لم يخرج من رأسي بالطبع. وهكذا رحت أكتب عنه في كتابي المؤجل:
"وبينما يمتلك الأثرياء الخيول، والوحيدون القطط، وغريبو الأطوار الطيور، كان عندنا قنفذ. ما إن نقترب منه حتى ينطوي على نفسه ويغلق سحّابه الشوكي فيغدو مثل صبّارٍ مدبب. تحت شجرة اللوز الكبيرة ينام طوال النهار مثل عاطلٍ عن العمل. ما كان يركض لتحيتنا عند الدخول ولا لوداعنا عند الخروج. كلما لمست في حذر أشواكه الرملية راح ظلّي يفرك ظلّها الناعم مثل فراء الأرنب. من يسمع صوته الشبيه بصوت رضيع لن يصدق أن هذا الصغير يأكل العقارب والثعابين. يحفظ المزارعون وحدهم فضل القنافذ كما يحفظ الرعاة فضل الكلاب. ظل القنفذ يخرج من بيتنا في الليل ويعود في الصباح يترنح مفتوح السحّاب بهيئة رجل قضى الليل كله يشرب ويضاجع. وفي ليلة باردة من ليالي الشتاء خرج القنفذ ولم يعد. أتذكره كلما رأيت شجر اللوز. أغمض عيني فأراه فورا."
جميل يا جميل
ردحذف