وتلفّتَتْ عيني..


 


وُلِدتُ في الرياض. أمضيت طفولتي فيها وفي الدمام. قضيت سنوات الشباب في بلاد الشام. قضيت بعد ذلك سنوات في إنجلترا. لكنني عشت عمري أكثره في الدمام. إنها المدينة الوحيدة التي لي فيها صندوق بريد وأب ميت أخذني إلى البحر ليعلمني في طفولتي السباحة كما يعلم الحوت صغيره. ألقاني في الماء كما كان يفعل آباء ذلك الزمن فكدت أغرق. كان أبي يمضي بعيداً في لُجّة البحر حتى لا يُرى من الساحل. كم تخيلته يغرق في صباي، لكنه ظل يعود في كل مرة من قاع البحر. تعلمت من السباحة ما لا يجعلني أغرق، أو ما يجعلني أظن ذلك. كلما ركبت الطائرة اليوم وعبرت بحرا أو محيطا ارتعشت في مقعدي. هنالك ظن النفس بالنفس واقع كما يقول الشاعر. علمني أيضاً ألا أضيع في اليابسة. أن أنظر إلى النجوم فإذا غامت السماء أنظر إلى الرمال فأرى أين تجمعها الريح خلف الشجيرات لأعرف اتجاهي. علمني طول البال الذي يجب أن يتمتع به الصياد والطريدة على حد سواء. علمني أن أبقي باب البيت مفتوحا حتى لا يتردد العابر أو الغريب في الدخول. علمني أن الكرم إنما يكون في النفس قبل اليد، والوجه قبل المجلس، والحديث قبل الطعام. تعلمت تقريبا كل شيء في الدمام وأضعت هناك كل شيء. أما الرياض فلم أذهب إليها إلا مكرها في عطلات الصيف. أتبع في شيء من الملل جدّي في حديقته الصغيرة، حيث يسقي النخيل التي تحط عليها العصافير لتَطعم الرطب قبيل نضوجه.
مات أبي وراحت العائلة تنسحب تدريجيا من الدمام. نصحو في الصباح فنسمع خبر الراحلين إلى الرياض. العم الكبير يقول إن الدمام ما عادت تطاق بعد أبي. تزوجت أختي هناك. سافر أخي الصغير للعمل في العاصمة ورافقته أمي. انتُدِبت أختي الثانية للرياض ثم أقامت هناك. بقيت وحدي في الدمام أماطل سنة تلو الأخرى. قلت لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي. مضت سبع سنوات. رقم قياسي في المماطلة ثم حان الأوان. زرت بيتنا القديم. لسبب لا أعرفه كل أحلامي تقع هناك. سبحت في البحر بعد جفاء طويل رغم البرودة وتذكرت عمتي اللي تخاف البحر حتى إنها لم تكن تنظر إليه أبدا بل تدير ظهرها إلى الساحل كلما خرجنا هناك. عانقت أرشد جاويد الحلاق الباكستاني الذي أغلق دكانه ولازمني كأخ ثالث في أيام العزاء. عانقت فرمان علي الفوال الأوزبكي الذي ينادي جميع الزبائن: "يا شباب". "لقد شخنا" قال أحدهم معترضا على الزمن لا على فرمان علي. واساه الفوال: "لا بأس حتى لا يطغينا عنفوان الشباب". عانقت السائق سيد الذي كان يأخذني إلى المدرسة البعيدة مذ كنت في الثامنة. نسيني مرة في البقالة. كان يعمل هناك بعد الظهر. كنت في العاشرة أقرأ الجريدة الرياضية خلف الثلاجة الكبيرة إذ لا أملك ثمنها ولما ارتفع أذان العصر أغلق الدكان ونسيني. كان هذا حلم الطفولة؛ أن أمتلك كل هذه العصائر والسكاكر والبسكويتات ولو ربع ساعة. هل أكلتَ شيئا؟ سألني سيد متجهما. قلت لا. قال لا بأس. أعرف أنك أكلت. خذ ما تشاء ولا تعد إلى قراءة الجرائد الرياضية. لن يمنحك فريقك المفضل ريالا واحدا. عندما عملت في شركة الكهرباء رأيته يراجع في طابور طويل. لم يسدد الفاتورة ويطلب إذنا للتأجيل. سيد؟ هجمت على رأسه فقبلته ودفعت ثمن الفاتورة. قلت هذا ثمن الحلويات يا سيد قبل ثلاثين سنة. هم الأهل.
عدت في الليل إلى شقتي الصغيرة. لقد خوت من الكتب والكراسي واللوحات والأقداح والملابس والأدراج حتى صار لطنين الذباب صدى. لا شك أن الصدى صوت الوحشة. انشرخت الجدران، وصدئت الأنابيب، وتهدلت الستائر. لقد كانت فيما مضى جديدة مثلي. "والليالي يُبلينَ كل جديدِ" يقول بشار. قلت أنام على الأرض كما كان الحال في الزمن الأول ثم صحوت وذهبت إلى قبر أبي. يقول شوقي: (يُزار كثيرا فدون الكثير فغِبّاً فيُنسى كأن لم يُزر). كان قبر أبي في صدر المقبرة تقريبا. عندما دفنته قال خالي الكبير احفظ مكانه ستنساه فيما بعد. لا نضع في مقابرنا أي شواهد ،كأنهم ماتوا على الطريق. سافرت إلى إنجلترا وحين عدت بعد سنة رأيت المقبرة وقد كبرت سنة هي أيضا. وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي فتأكل من هذا الأنام وتشرب كما يقول المعري. هذا ما كان يقصده خالي إذن. أي ابن يضيع قبر أبيه؟ غرغرت عيناي فهاتفت أخي لأسأله أين قبر أبي. قال اذهب إلى المربع الثاني وامض إلى العمود السادس والعشرين ثم عدّ القبور حتى تصل إلى القبر الخامس. أدركت أنني كنت أقف على قبره قبل قليل، وأدركت لماذا أحببت طيلة عمري الرقم خمسة ولماذا لا أطيق مغادرة الدمام.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الخيال: أول ألعاب الطفولة.

في مديح التنورة القصيرة..

حدائق السجن