جُحر كارول

 


حين زرت برايتون أول مرة سألني سائق التاكسي الانجليزي ما إذا كنت أعرف تشارلز دوجسون، ولما نفيتُ بحركةٍ من رأسي قال وماذا عن لويس كارول؟ فاندفعت قائلاً أعرفه بالطبع. أشار عندئذٍ بيده إلى إحدى الشقق العلوية البيضاء ليخبرني أن دوجسون أستاذ الرياضيات في أوكسفورد أو كارول كاتب قصص الأطفال كان يقضي الصيف هنا. كان دوجسون قساً وكاتباً وسياسياً وشاعراً ومخترعاً وعالم رياضيات. وإذا كان الزمن قد طمس كل ذلك متعمداً أو عن غير عمد فإنه لم يطمس حتى الآن اختراع كارول الأشهر "أليس في بلاد العجائب".


بحثت في غوغل -وغوغل عميلٌ مزدوج- فوجدتُ إعلاناً قديماً لبيع الشقة التي أقام فيها كارول. كان مالكها يطلب أكثر من ثلاثة ملايين جنيه استرليني في البيت الذي يقال إن كارول كتب فيه مخطوطة أليس. ثم قرأت خبراً عن بيع الشقة فيما بعد بسعر أقل من ذلك بكثير. أرجو ألا يكون المشتري أحد الكتّاب الجدد. قرأت في موقعٍ آخر أن لويس كارول كان يقضي وقته في الحديقة المقابلة. ثمة نفق سري في الحديقة يقود إلى البحر وهو على الأرجح ما ألهمه بفكرة جحر الأرنب. مضيت بعدها أبحث في البيت وأدور حوله حتى وجدت اللافتة البيضاء التي تؤكد أن كارول عاش هنا. خلف هذا الجدار ربما يفتش المالك الجديد عن أليس جديدة. 


تملكتني فكرة الوقوف على نفق سري أوله حديقة وآخره بحر وما بينهما بلاد عجائب. حين أردت دخول الحديقة تبين أنها ليست للعامة كعادة الحدائق هنا. لا بد أن تكون من سكان هذه الشقق الغالية. ظللت أدور بحثاً عن زاوية تسمح لي برؤية النفق لكن الأشجار الطويلة تقف خلف الأسوار مثل الحرس. قصدت محطة باص صغيرة على طرف الحديقة. حاولت الوقوف فيها على الكرسي الخشبي لأرى النفق لكن الأشجار كانت أطول. حتى عندما ركبت الباص، وجلست في الطابق العلوي وقفت الأشجار على أطراف أصابعها واستطالت لتحجب عني النفق السري. عدت مرة أخرى لأطوف حول الحديقة وبينما أنا كذلك إذ خرجت إحدى الشابات بملابسها الرياضية لتجري في الحديقة. كانت قد جمعت شعرها البني كيفما اتفق فبدا مثل كعكة سينابون حتى إنني شممت رائحة القرفة. تبعتها وكدت أستوقفها لا لأسألها عن وصفة الكعكة، ولا الإذن بالدخول إلى الحديقة، بل لأسألها عن حقيقة ذلك النفق. خشيت أن أبدو متحرشاً أو أسوأ من ذلك، أن أبدو من مجاذيب أليس. لو كنت منهم لتسللت ليلاً إلى الحديقة وبحثت في ذلك النفق عن أي جحر لأحشر نفسي فيه. عدت إلى البيت وقبل النوم تساءلت لماذا لم أذهب جهة البحر لأبحث عن النفق ولما ذهبت في الغد إلى البحر وجدت أكثر من نفق مغلق فلم أعرف نفق كارول. حين أمعنت النظر في اللافتة انتبهت إلى أن الفترة التي قضاها كارول في برايتون كانت بعد نشر أليس بسنوات. لو وُجِد أصلاً جحر الأرنب ذاك لاشترته ديزني من زمان. 


قبل خمس سنوات كنت أقود سيارتي جنوب الرياض في مهمة عمل فمررت بمدينة الأفلاج أو ليلى. ولما لمحت لافتة تقول إن جبل التوباد على بعد خمسين كيلو متر انعطفت إليه. وقفت على الجبل الذي بدا أصغر كثيراً مما تخيلت. حييته على طريقة شوقي فلم يرد، إلا إذا كانت تحيته تلك الحصاة التي انحدرت من عينه مثل دمعة. لقد كان في قديم الزمان يهلل لمرأى ابن الملوح، على أن قيس كان يجهش له في المقابل. "وأجهشتُ للتوبادِ حين رأيتهُ، وهلّلَ للرحمنِ حين رآني". سارعت إلى ركوب السيارة وقد تأخرت عن اجتماع مهم وأخذت ألوم عبدالوهاب وأغنيته الشهيرة "جبل التوباد". ليس أسهل من لوم الآخرين خصوصاً إذا كانوا موتى. اليوم ألوم نفسي لأني لم أقف عليه كما يجب فالوقوف في معناه العربي القديم وقوفٌ على الزمان لا المكان فحسب. لقد وقفت عليه كما وقف تاجر العقار في بيتنا فلم ير غير البنيان القديم، وكلفة الترميم، وسعر المتر في الحيّ، ومبلغ الإيجار السنوي، ولم ير أبي حياً وشاباً، ولا أمي خفيفةً من غير جلطة، ولا طفولتنا وصبانا قبل أن نتبدد في هذه الأرض، بل لم ير حتى الفرق الكبير بين البيت والمنزل. أي جحر قادني هنا؟ لقد أردت أن أكتب عن لويس كارول الذي أوتي منطق الأحلام لكنني كالعادة أكتب ما لم أخطط له، وأخطط طويلاً لما لن أكتب أبدا. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..