جدّتي



رحم الله جدّتي. اعتمرتُ عنها صبيًا في رمضانٍ بعيد، ولما عدت وأخبرتها تباشرت وضحكت. تحسّستْ وجهي الصغير إذ كانت عمياء إلا قليلًا، ثم طبعت عليه قبلةً طويلة، واحتضنتني فغمرني الريحان -كأني أشمّه الآن- حتى كاد يخنقني. كانت جدّتي لأبي تحتفظ بشتلات الريحان اليانعة فتشمّ أزهارها البيضاء والبنفسجية بين الحين والآخر ثم تضعها إلى جانب وسادتها بجوار الراديو والأدوية.

وكان الريحان في ذلك الزمن يعرف طريقه لمداخل بيوتنا -أين ذهب اليوم؟- فليس علينا إلا أن ننزعه قبيل الدخول ونقدّمه لها فتتنشقه حتى تخلع عنها سنواتها السبعين فتعود طفلةً بجديلتين طائرتين أو شابّةً بجديلةٍ باسمة. لقد كان الريحان في زمنها طيب المرأة. أما الرجل فكان يخرج بالعود والبخور ويعود بالعرق والسخام. وما كان ذلك يدعو إحداهنّ للقرف، بل لقد كان موضع تقدير لكدّ الرجل وشقائه إذ ما خرج من بيته لينعم بالظل والنسيم حتى لقد ذاعت كلمةٌ لإحدى العجائز تقول فيها: "ليس الرجل برجلٍ ما لم يكن مُشعِرًا ومُصِنًّا". العرق شهادة على ساعده العامل طيلة النهار أما الشَعر الغزير فلعله عائدٌ إلى الحدود الواضحة بين الجنسين في ذلك الزمن، أو لعله مزاج العجوز الشخصي وذوقها.

مالت جدّتي وأرسلت يمينها تتلمس فِراشها الأحمر ثم انتزعت من طيّاته خمسين ريالًا. كان ذلك أكبر مبلغٍ حصلتُ عليه في حياتي. كنت في التاسعة ربما. ماذا أفعل بكل هذه الريالات؟ أرهقتني تلك الثروة الصغيرة فسألت أمي أن تخلّصني منها بعد دقائق. ما كانت أحلامي تتحقق بالمال آنذاك. أين ذهب ذلك الولد؟ قالت جدّتي سأهبك مثلها إن ختمتَ عنّي القرآن، فارتفع صوت أبي من المجهول قائلًا: "بل يختمه من غير نقود يا أمي". ولما التفت نحو مصدر الصوت قال: "أليس كذلك؟". كان أبي على الدوام يقف في تلك البقعة اللامرئية حتى عندما يغادر البيت أو يسافر. لا أظنه يقف هناك في حذرٍ ليمنعنا من ارتكاب الأخطاء، بل لينظر ما يكون من شأننا بعد ذلك.

وكانت جدّتي تقيم معنا في البيت، في الصالة تحديدًا، والصالة قلب البيت، ينبض كلما تكلمت الجدّة، وينبض مرتين عندما تضحك. أقامت أول الأمر في حجرتها لكن الوحشة دفعتها للخروج حبوًا على أربع. صاحت ساخرةً: "فلتبتعدوا عن درب الفرس"، وأمرت بمرقدها أن يُجلب وراءها. تمددت هناك وراحت ترصد بحدسها الداخل والخارج. وكنا نبادرها بالسلام ما لم تكن نائمة، إذ ليس من الرحمة أن نضاعف عماها بالصمت. وإن كانت تعرفنا من الخطوات فتنادي علينا قبل أن نناديها. لطالما استغربت في صباي من كل البيوت التي لا أعثر في صالاتها على جَدّة. عندما ماتت جدّتي قضينا سنواتٍ عصيبة لا ندري ماذا نفعل بالصالة.

وكانت جدّتي تحبّ الشعر النبطي القديم وتسلّي نفسها بترديده فتطرب وتضرب أصابعها على ساقها. "نعدّ الليالي والليالي تعدّنا.. والعمر يفنى والليالي بزايد". وكنت أحفظ عنها تلك الأبيات فأرددها. ألاعبها في بعض الأحيان فأخطئ، وتلاعبني فتصحح لي أو تكتفي بابتسامة حين يطرحها المرض.

وكانت تجيرنا من أبي وأمي إذا أذنبنا. نلبد عندها فتقول لهما إنهم في وجهي هذه المرة فنفلت من العقاب ونعود إلى شقاوتنا. ولما استمرأنا ذلك توعدَّنا أبي لئن فعلناها ليُرينّا منه ما لم نره قط. والحق أن ما لم يره الأبناء من آبائهم قط هو الموت، حتى إذا ماتوا تحقق ذلك الوعيد.

وكان سقف الصالة في عيني جدّتي البيضاوين يتزين بالأشباح والموتى مثلما تتزين سقوف الكاتدرائيات القديمة بالملائكة. تقول إنهم يتحركون من هنا إلى هناك. انظر. ألا تراهم؟ لكنها لا تخافهم لأنها كما تقول لن تموت قبل الثمانين. جاءها الملاك في المنام ليقبض روحها -وكان عمرها آنذاك ستين عاما- فقالت أمهلني عشرين سنة فأومأ موافقًا واستدار بعيدًا وسرعان ما ندمت فقالت: "زدها عشرًا" فلم يلتفت الملاك، ولما بلغت الثمانين ماتت.



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وتلفّتَتْ عيني..

عن الخيال: أول ألعاب الطفولة.

الكلام بصوتٍ خافت