يوميات تولستوي - وإذا كانت النفوس كبارا



ما إن أعلنت آفاق عن قرب صدور الجزء الرابع من يوميات تولستوي حتى تذكرت الأجزاء الثلاثة التي عدت بها من معرض القاهرة مطلع هذا العام. ولما وقفت أمام المكتبة العريضة ذهلت كما ذهل في المطار رجل الأمن حين رأى حقائبي تعج بالكتب لا بالملابس: "كل هذه كتب؟ ربنا يديك الصحة" فسارعت إلى تطمينه، أو تطميني بالأصح، ونفيت قائلا "لا، لا، ليست لي، بل للمكتبة". لم أكذب تقريباً، نحن لا نملك الكتب التي لم نقرأها بعد، وأخشى أننا لا نملك حتى تلك التي قرأناها.

لولا الفضول لما بدأت بالجزء الأول، ربما بدأت بالثاني وقد بلغ تولستوي الثلاثين من العمر وهو سنٌ ينضج فيه المرء شخصياً وأدبياً أو يكاد. لا أقرب في الغالب إصدارات الكُتّاب الأولى، ومن يقرأ مثلاً ساعة نحس لماركيز يفهم قصدي، وقد كان عنوانها الأصلي "براز" والحق أنها كانت كذلك، وبمرور الوقت صارت سماداً لشجرة الكستناء العظيمة التي سيربط حولها ماركيز مجانين آل بوينديا.

وكما يفتتح فان كوخ الكثير من رسائله إلى أخيه ثيو قائلاً: "استلمت للتو رسالتك والخمسين فرنك" يفتتح تولستوي رسائله -وما اليوميات إلا رسائل فيها المرسِل هو المُرسل إليه- بجملة يجتمع فيها القنوط والسخط: "لم أفعل شيئاً اليوم" ثم ينطلق تولستوي الشاب مثل مخبر سري فيدون كل شيء حتى الشارب الأيسر الذي يبدو أطول قليلاً من الأيمن، ثم لا يكف عن تعنيف نفسه فإذا لم يزر صديقه لام نفسه على افتقارها إلى الطاقة فإن زاره ومكث طويلا لام نفسه على افتقارها إلى الصلابة فإذا نسي معطفه هناك وعاد لامها على الشرود فإن تحدث لامها على الفظاظة وإن صمت لامها على التردد، وإذا تخلف عن تمارينه الرياضية وبخها على الكسل وإذا أداها على مرأى الناس وبخها على الكِبر، وإذا أكل أكثر من اللازم لامها على النهم وإن تبضع أكثر من حاجته لامها على الشراهة وإن لم يكتب لامها على عدم السعي إلى المجد وإن لم يصحح ما كتب لامها على الاستهتار وهكذا لن تنتهي سلسلة اللوم إذ لا تجدي تهديداته بضرب نفسه بالسياط حين يثمل أو بالرصاص حين لا يكتب. يمكن تلخيص هذا المنهج الصارم لتولستوي عبر يومياته: "وليرضى المرء عن نفسه فلا بد أن تتحول الحياة إلى تقريع مستمر للذات. ياله من عذاب". حقاً، ياله من عذاب.

ولكن، لا ينبغي أن ننظر إلى تولستوي كما يرى هو نفسه، فهذا الذي تعذبه تفاهة حياته كما يقول كان قد وضع قواعد لنفسه فعلمها الانجليزية والألمانية والفرنسية طبعاً والإيطالية وبعض اللاتينية كما تعلم الموسيقى والعزف والرسم، وقد وُلِد صياداً وفارساً، على ما يبدو أنهم يولدون في ذلك الزمن بهذه المواهب، ثم إنه تعلم الزراعة والقانون والفلسفة ولما بدأ يقرأ كتب التاريخ في الرابعة والعشرين تيقن من تربيته السيئة التي جعلته يتأخر في محبتها حتى هذا العمر. هذه القواعد تتناسل فتشمل طرق التعامل مع الفلاحين والجنود والأصدقاء، قواعد للعب الورق، قواعد للربح وقواعد للخسارة، لن يلتزم بها، وقاعدة ضرورية لن يلتزم بها أيضاً: "لا تتزوج" وسينقلها لأحد شخصيات الحرب والسلم الخمسمائة ولن يلتزم ذاك هو أيضاً. قواعد للسلوك، وحتى للشرب: "نصف كأس فودكا وكأس خمر قوية وكأس نبيذ ضعيف في اليوم". وما إن يبلغ السادسة والعشرين حتى يرثي نفسه: "لقد مضى الشباب، وحان وقت العمل".

أما لعب الورق والقمار فإدمانه الأول، وأما إدمانه الثاني فهو الجسد ولا أقول المرأة. تقرأ يومياته وخسائره الخيالية، عشرات الروبلات ثم مئات الروبلات ثم آلاف الروبلات. لا بد أن تتذكر روستوف في الحرب والسلم حين خسر في ليلةٍ واحدة ثلاثة وأربعين ألف روبل. ولربما تذكرت ما كتبه تولستوي عندما انتبه روستوف بعد فوات الأوان إلى أنه ما كان عليه أن يرهن مصيره بصدفة سخيفة تسمح لأي ورقة بتدمير حياته. لطالما أُخِذت بهذا العمل العبقري، ولا أنسى الكونت العجوز الذي كان يجمع أوراقه مثل مروحة ثم يدنيها من أعين خصومه حتى يساعدونه على تبديد أمواله رغم تزعزع مركزه واقترابه من الإفلاس! كان اللعب مع الكونت الأب موضع نزاع بين اللاعبين إذ يعول الجميع على تحسين حياتهم بمساعدته. أما الجسد فغرامه الثاني، أم هو الأول؟  ولربما ظن المرء أنه قد عاش قديساً أو عنيناً مقارنةً بهذا الانحلال، يكفي الإشارة إلى أن اليوميات تبدأ بشكوى من إصابته بالسيلان ولما يبلغ العشرين بعد. كانت الشهوة تؤرقه كل ليلة فإذا نام أيقظته من الصباح الباكر ولكم أذلته وأشعرته بالخزي فعاهد الله ونفسه ألا يعود مجدداً ثم لا يدوم هذا العهد أكثر من يومين أو ثلاثة. كان يرى في الشهوة عائقين: الجسد وعنفوانه وهذا يمكن تلهيته بالعمل، أما العائق الثاني فهو الخيال. الخيال الذي جعل بروست يكتب يوماً: ‏" وأما النساء الجميلات فنتركهن للرجال الذين يعوزهم الخيال". وما أغرب تولستوي بل ما أغرب الرجال حين تقرأ عن أوكرانية كان قد قبّلها عبر النافذة، ولما زارته ليلاً كتب في اليوم التالي: تمنيت لو لم تأتِ، لو بقيت الذكرى عند النافذة". لفوينتس كما أظن قصة جميلة، ليس هذا مقامها بالطبع، عن مهاجر مكسيكي يعمل في تلميع الزجاج، وفي أحد الأيام يتبادل عبر الزجاج قبلة وحيدة مع إحدى حسناوات الطابق الخمسين لإحدى ناطحات نيويورك.

تكشف اليوميات أيضاً عن قراءات تولستوي وانطباعاته الحادة كعادته، كما تكشف صراعه الأبدي بين الخير والشر والرب والأقنان ورهافته التي يخفيها كثيراً. "قرأت مذكرات صياد لتورغينيف وكم كان من الصعب أن أكتب بعدها شيئا"، أو "بدت فاليريا متألقة، تحدثت معها حتى كدت أذرف الدموع". ربما لا تكون اليوميات ممتعة كرواياته الكبرى أو حتى الصغرى لكنها مرجع مهم للباحثين وإضافة حقيقية للمكتبة العربية وبالنسبة لمحبي تولستوي هذه اليوميات تصل النقاط بعضها ببعض حتى يمكن فهمها أو تفهمها.  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..