الأرضة التي ابتلعت بيتنا القديم

 



أخيرًا أمسكت بالأرضة التي ابتلعت بيتنا القديم. ظللت أطاردها سنوات وسنوات بدأب فتى أقسم لأمه أن يطارد قاتل أبيه حتى آخر يومٍ في حياته. كلما خرجت للبحث عنها حاول إخوتي عبثًا إقناعي أن الجرافات هي من هدمت البيت. ما كانت الأمطار ولا العواصف لتمنعني من مطاردتها كل ليلة.

رأيت الأرضة في طفولتي أول مرة حين فتحت خزانة الملابس الخشبية. كانت تجلس في زاوية الرف السفلي وقد بلغت من الجوع والتعب ما لا يجعلها تخاف أحدا حتى الموت نفسه. لقد صممت على أن تقضم ألياف الخشب ولو كانت تلك قضمتها الأخيرة. ما كنت لأقتلها آنذاك. تركتها ترعى في الخزانة ولو تركت ضبعًا هناك لكان أرحم. قدّرت لو أنها عاشت ألف سنة لما استطاعت أن تأتي على ذلك الرف! لم أنسها أبدا. كلما ضجت ذاكرتي بالصور القديمة وراحت تحذفها -كما نفعل في هواتفنا الذكية- استثنتْ صورة الأرضة وهي تغرز نابها الشرِه في ذلك الرف. احتفظت بصورتهالسببٍ ما طوال تلك السنين.

وبينما أمسح الشوارع ليلة أمس بحثًا عنها إذ التمع من بعيد نابها ذاك مثل فص ألماس في الرمل. ركضت نحوها فلم تفزع مني حتى حملتها ورحت أضرب ظهرها لتبزق بيتنا القديم. حاولتْ الهرب وسرعان ما أدركت أنها قد وقعت في الفخ. فات الأوان. حاولت أن تعضّني لكنها معُلَّقةٌ في الهواء وأصابعي بعيدة.

ظللت أضربها حتى راحت تسعل وتسعل فاندفع من فمها مصباحٌ مكسور تبعته بندقية صيد فطاولة طعام لثمانية أشخاص فغرفة نوم لعريسين ميّتين فجرّافة صفراء ثم راحت البيوت تنزلق بيتًا بيتًا مع القيء الأخضر. كانت المربعات السكنية المهجورة تتساقط حول قدميّ حتى رأيت بينها القصر الأحمر وأشجاره الواشنطونية.

لم يكن قصرًا في الحقيقة بل فيلا، غير أن الجميع في الحيّ كان يسميها القصر الأحمر. ارتفعت أبواب الفيلا ونوافذها وأسوارها وطوابقها بل حتى أشجارها، إذ لم نعرف تلك الأشجار الواشنطونية من قبل. كان طولها يعادل طول نخلتين أو ثلاث من تلك النخلات التي تقف أمام بيوتنا. لقد أفقدتنا احترامنا للنخيل رغم أنها لا تطرح رطبًا حلوًا كما أفقدنا القصر احترامنا لبيوتنا الصغيرة.

وكانت تقيم في ذلك القصر بنت حلوة وهذا سبب كافٍ لتتحول الفيلا بوطأة ناعمةٍ من قدمها إلى قصر عظيم. وكان لها أخ بغيض وهذه سُنَّة كونية؛ لا بد لكل حسناء من أخٍ بغيض يضايقها، وأبٍ يبالغ في تدليلها، وأمٍ مريضةٍ على الدوام. وكان هناك كلب ضخم يحرس القصر بلعابه وأنيابه وإن لم يره أحد في الحيّ. أظننا اختلقناه ورحنا نتخيل نباحه كلما اقتربنا من القصر الأحمر.

كانت تلك الحسناء حتى وهي تمشي تبدو مثل أميرة تنزل بجلالٍ من دَرَجٍ دائري. تغيرت مواعيد الشروق والغروب في الحيّ وارتبطت بشباكها حين ينفتح وينغلق. وكان الآباء يعلمون ذلك كلما سمعوا تلك التنهيدة الجماعية التي تسببت بتغيير مناخ الحيّ. إذا ضحكت تلقف أحدنا ضحكتها في الهواء وتعاركنا عليها حتى تطير بعيدًا عن قبضاتنا الدامية وكدماتنا الصغيرة فينتهي العراك. صار أولاد الحي عشاقا في اليوم الأول، وشعراء في اليوم الثاني، ومجانين في اليوم الثالث. حارت الأمهات فحملننا إلى العجوز التي تعالج كل الأمراض بالكيّ وهكذا وسمت أعناقنا من الخلف بالنار فكان لغرامنا الأول رائحة الجلد المحترق. ما يزال أثره في عنقي. تحسسته فانسلّت الأرضة الملعونة واختفت أثناء ذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وتلفّتَتْ عيني..

عن الخيال: أول ألعاب الطفولة.

الكلام بصوتٍ خافت