زيارة خاطفة لأحمد شوقي..
كان في بيتنا الأول مكتبة صغيرة لونها رمادي كئيب. تقشّر طلاؤها فزاد من كآبتها، وتآكلت أطرافها الحديدية فمالت قليلًا إلى اليسار. كانت على الأرجح خزانة لمصلحة حكومية تُحفظ فيها سجلات الصادر والوارد، أو المواليد والوفيات. إذا أراد أحدنا أن يفتح المكتبة أو يغلقها لا بد أن يسدّ أذنيه كأنه سيفجر حزمة من الديناميت. كان لها صرير يشرخ الآذان والجدران. لا أدري كيف نجت من سوق الخردة، ثم فرّت من سوق الأثاث المستعمل حتى لاذت ببيتنا. الأرجح أن المستأجر السابق تركها خلفه. ملأها أبي بكتب الشعر والمعاجم. هناك لمحت أحمد شوقي أول مرة. لمحته مرةً أخرى على الطاولة الصغيرة المجاورة لسرير أبي، ثم رأيته وسمعته في كل زوايا البيت.
كان أبي يؤمن بالتربية الشعرية وهكذا صار مؤدبنا هو شوقي. يوبخنا بأبياته ويواسينا، ولقد يقسو علينا ثم يصفح بعد ذلك ويعانقنا. وكانت حكايات الحيوانات قصصنا ما قبل النوم، ونسختنا الشعرية من كليلة ودمنة. أما مسرحياته فكانت أول شاشة ذكية نقتنيها في حياتنا. ولما كبرنا تفرّق عنه إخوتي وبقيت أزوره بانتظام في المكتبة فيسألني عنهم فردا فردا.
حاول شوقي تعليمي الشعر عبثًا فأخبرني أن الإنسان إنما خُلِق من دمٍ وحنان لا كما يقول كتاب العلوم، وأن هذا الهلال الوليد ليس إلا جدّ الليالي يبيدها -مع ذلك- فيما يبيد. أخبرني كيف ركب أبو الهول متن الرمال فطوى الآصال وجاب الأسحار وسافر منتقلا في القرون فلم يلق عنه غبار السفر "فعينٌ إلى من بدا للوجود / وأخرى مشيعةً من غبر". كم أحببت تلك القصيدة. أخذت منه "الحوادث" و"الحادثات" ورحت أحشرها في كتاباتي المبكرة فخاب أمله إذ ما الحوادث التي يعرفها من لم يتجاوز الثالثة عشرة بعد؟ سرعان ما أشفق علي وخطر في باله أن يعلمني القليل عن النفس. دعاني إلى أن أحمل عليها ما لا تطيق، "والنفسُ إن يدعها داعي الصبا تهِم" "وما البطولة إلا النفس تدفعها" يا عبدالله، "والنفس إن كبرت رقّت لحاسدها".. ولما أدرك أن دروس الشعر كانت أهون عليّ من هذا الحديث ربت على كتفي، وقال حسبك أن تعيش في هذه الدنيا إنسانا.
زرت القاهرة قبل أيام، ورأيت أن أزور في الصباح متحف شوقي أو بيته الذي أسماه كرمة ابن هانئ. دخلت ساحة المتحف فرأيت تمثاله جالسًا تحت شمس الصيف وفي يده وردة. رمقني كأنه يسأل ماذا تريد؟ قلت: "صبوح الكأس من بعد الغبوق" فابتسم وترحم على أبي نواس. ما إن أمعن النظر حتى تعرف إلي فنهض من قاعدة التمثال معانقا.
طفت في بيته قليلا. عرضت إحداهن أن ترشدني في المتحف فشكرتها. قلت: "يمكنني أن أدور في البيت مغمض العينين فأصعد الدرج وأنزل، بل أقف أمام الصور المعلقة فأراها". ضحكت وقالت: "لم أرك هنا من قبل". قلت: "هذه زيارتي الأولى لكن شوقي سبق وأن عاش في بيتنا، وبطريقة ما عشت في بيته". لم تفهم ما أقصد، والحق معها بالطبع.
تعليقات
إرسال تعليق