المشاركات

عرض المشاركات من أغسطس, 2025

الأرضة التي ابتلعت بيتنا القديم

صورة
  أخيرًا أمسكت بالأرضة التي ابتلعت بيتنا القديم. ظللت أطاردها سنوات وسنوات بدأب فتى أقسم لأمه أن يطارد قاتل أبيه حتى آخر يومٍ في حياته. كلما خرجت للبحث عنها حاول إخوتي عبثًا إقناعي أن الجرافات هي من هدمت البيت. ما كانت الأمطار ولا العواصف لتمنعني من مطاردتها كل ليلة. رأيت الأرضة في طفولتي أول مرة حين فتحت خزانة الملابس الخشبية. كانت تجلس في زاوية الرف السفلي وقد بلغت من الجوع والتعب ما لا يجعلها تخاف أحدا حتى الموت نفسه. لقد صممت على أن تقضم ألياف الخشب ولو كانت تلك قضمتها الأخيرة. ما كنت لأقتلها آنذاك. تركتها ترعى في الخزانة ولو تركت ضبعًا هناك لكان أرحم. قدّرت لو أنها عاشت ألف سنة لما استطاعت أن تأتي على ذلك الرف! لم أنسها أبدا. كلما ضجت ذاكرتي بالصور القديمة وراحت تحذفها -كما نفعل في هواتفنا الذكية- استثنتْ صورة الأرضة وهي تغرز نابها الشرِه في ذلك الرف. احتفظت بصورتهالسببٍ ما طوال تلك السنين. وبينما أمسح الشوارع ليلة أمس بحثًا عنها إذ التمع من بعيد نابها ذاك مثل فص ألماس في الرمل. ركضت نحوها فلم تفزع مني حتى حملتها ورحت أضرب ظهرها لتبزق بيتنا القديم. حاولتْ الهرب وسرعان ما أدركت...

زيارة خاطفة لأحمد شوقي..

صورة
  كان في بيتنا الأول مكتبة صغيرة لونها رمادي كئيب. تقشّر طلاؤها فزاد من كآبتها، وتآكلت أطرافها الحديدية فمالت قليلًا إلى اليسار. كانت على الأرجح خزانة لمصلحة حكومية تُحفظ فيها سجلات الصادر والوارد، أو المواليد والوفيات. إذا أراد أحدنا أن يفتح المكتبة أو يغلقها لا بد أن يسدّ أذنيه كأنه سيفجر حزمة من الديناميت. كان لها صرير يشرخ الآذان والجدران. لا أدري كيف نجت من سوق الخردة، ثم فرّت من سوق الأثاث المستعمل حتى لاذت ببيتنا. الأرجح أن المستأجر السابق تركها خلفه. ملأها أبي بكتب الشعر والمعاجم. هناك لمحت أحمد شوقي أول مرة. لمحته مرةً أخرى على الطاولة الصغيرة المجاورة لسرير أبي، ثم رأيته وسمعته في كل زوايا البيت. كان أبي يؤمن بالتربية الشعرية وهكذا صار مؤدبنا هو شوقي. يوبخنا بأبياته ويواسينا، ولقد يقسو علينا ثم يصفح بعد ذلك ويعانقنا. وكانت حكايات الحيوانات قصصنا ما قبل النوم، ونسختنا الشعرية من كليلة ودمنة. أما مسرحياته فكانت أول شاشة ذكية نقتنيها في حياتنا. ولما كبرنا تفرّق عنه إخوتي وبقيت أزوره بانتظام في المكتبة فيسألني عنهم فردا فردا. حاول شوقي تعليمي الشعر عبثًا فأخبرني أن الإنسان إن...