الروائي محمد عبدالنبي يكتب عن فن التخلي:



ما بين سطرٍ واحدٍ وصفحةٍ كاملةٍ تتراوح محتويات فن التخلّي، المجموعة القصصية الأُولى للكاتب السعودي عبد الله ناصر والصادرة حديثًا عن دار التنوير، غير أنَّ أغلب القصص الواحد والثمانين مكتوبة في فقرةٍ واحدةٍ مِن بضعة سطورٍ، في كثافة قصيدة النثر وطرافتها، وطموح الأقصوصة أو النادرة إلى اكتناز العالم كله بين قوسَي تنصيصٍ.


لن يشعر القارئ بهويةٍ تقليديةٍ لكاتب هذه الأقاصيص، بمعنى قدرتنا على تحديد سياقٍ مُحدَّدٍ له، سياق مكاني وزماني وثقافي، إنه فقط يكتب في أيامنا هذه التي تنهزم فيها الحدود الحاسمة، على الأقل في الواقع الافتراضي، وتنحسر فيها أساطير نقاء العرق والنوع، على الأقل بين الأنواع الفنية، ويغيب فيها التشبث الأحمق بالخصوصية، على الأقل في بعض منتجات الفن والثقافة. كأننا أمام ذاتٍ عالميةٍ، تتحرّك بحريةٍ تامةٍ على خريطة جوجل إيرث، وبين روايات وأفلام وموسيقى وأعمال فن تشكيلي تنتمي جميعها إلى التراث الإنساني عمومًا والغربي خصوصًا واللاتين أمريكي تحديدًا. غير أنَّ الفن هُنا ليس لذاته، فكأنه مجرد ذريعةٍ للعبةٍ أشمل وأخطر، لعبة خلط الأزمنة والأمكنة، لتصير المرجعية الفنية والثقافية مجرد آلة زمن يسافر بها النص حُرًّا مرتاحًا، شأن الجدار الذي جمعَ أخيرًا بين رأس الوعل بعد صيده وتحنيطه والبندقية التي أردتْهُ، لكن يظل كلٌّ منهما له تاريخه وحنينه وتفضيلاته من قنوات التليفزيون التي تواجهه في أبديته المنزلية.


التقافز بين الأمكنة والأزمنة مُتَّكأٌ أساسيٌّ لإنتاج اللعب والمفارقة. آخر القصص بعنوان فارق هائل في التوقيت ترسمُ شخصًا عجولًا إلى درجة ابتعاده عن ظله وعدم قدرة أقداره على اللحاق به، وفي قصة قفزة الثعلب نرى العكس تمامًا حيث شخص تعدو الحياة أمامه ويظل متأخرًا لثوانٍ عن الإمساك بها، وتتكرر مثل تلك الألعاب المعتمدة على فوارق السرعة والتوقيت والاختلالات الزمانية والمكانية بحيث تشع عبر قصص الكتاب ككلٍّ، ففي قصة حياة سريعة يستيقظ أحدهم في عيد ميلاده الحادي والعشرين ليجد نفسه قد بلغ الأربعين بشاربٍ عثمانيٍّ وامرأة سمراء تتصرف كما لو كانت زوجته، وهناك آخر يختزن الوقت ليتصرَّف فيه عند الحاجة إليه في قصة حياة على الرف.


يتعانق المشهد السردي والتعبير الشعري لإنتاج دراما صغيرة محبوكة لا تتجاوز الأسطر المعدودة، سِمتها الطرافة وقوامها المفارقة، أحيانًا كانت تتوزّع المفارقة على كامل النص فتضيئه إضاءةً متساوية، وأخرى كانت تُحتجز للسطر الأخير لتلعب لعبة التنوير القديمة فتفترب بالنص من المزحة التي قد تُقرأ مرة واحدة وكفى، غير أن خفة الروح لا يُمكن إنكارها عبر الكتاب، مهما قابلتنا بين الحين والآخر نصوص شجية عن الأب والحبية أو المرض والموت، تبقى تلك الابتسامة المعلّقة بين الضحك والمرارة، تبقى تلك المساحة التي يتداخل فيها ما يُسمى الواقع بما يُسمى المنتج الثقافي والفني، إذ يتحوّل المجاز إلى حقيقة وإذ يتساءل قط في إحدى القصص متى تحوّل إلى مجاز. ثمّة فكرة هاربة كأنها فراشة مضيئة في الليل، وراء كل قصة/فقرة، غالبًا ما استطاع الأسلوب أن يغويها ويصيدها ويضعها في إطارها المناسب ليبرز لُطفها، والكتاب ككل كأنه تحية إعزاز وتقدير للفنانين والكتّاب في كل زمان ومكان، كأنهم عائلة واحدة ممتدة أو رابطة سرية من المعاتيه وعشّاق الجمال والحياة.


تحكي إيزابيل أللندي في كتاب أفروديت عن معلّم اليوجا والتأمل ذلك الذي طلبَ منهم أن يأكلوا ثمرة عنب واحدة - أم كانت ثمرة كريز؟ - في نحو عشر دقائق – أم رُبع ساعة؟ - لتكتشف هي والمتدربون معها في الصف أنه يمكن لثمرة واحدة صغيرة أن تصير وليمة حقيقية للحواس إذا ما منحناها كل الانتباه والتقدير، تذكرت هذه الحكاية بينما أتذوق على مهلٍ بعض نصوص كتاب فن التخلّي، مرةً بعد أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..