٢٤ ساعة في بروكسل




أكتب في القطار عائداً إلى لندن بينما نعبر الحدود الفرنسية، كانت بروكسل باردة جداً وإن كان أهلها على العكس من ذلك فهم يحتفون بالكسل على الطريقة الفرنسية ويُقبِلونَ على البيرة منذ الصباح الباكر - شاهدت أحدهم يكرعها بالصحة والعافية في التاسعة صباحاً وربما بدأ مبكراً قبل خروجي من الفندق - كما أنهم يتبادلون القبلات القصيرة والطويلة، والجافة والرطبة، والتقليدية والحداثية، والعاطفية والشهوانية، والعادية والفانتازية في الأماكن العامة - ربما أكثر من الخاصة - بشكلٍ أكبر من الانجليز. وتؤكد صحة ذلك عشرات الكاتدرائيات المهجورة من قبل البروكسليين الآثمين وحتى كاميرات السياح وربما الرهبان والكهنة أيضاً. الناس هنا يؤمنون بالشوكولاته والوافل والبيرة والكوميك والأنتيك ويتنسكون فقط في تلك الحانات والمتاجر. وقد تعرضت لخدعة أو لنقل مقلب عندما قطعت تذكرة دخول متحف البيرة البلجيكية وما إن خطوت خطوةً واحدة حتى انتهى المتحف. لا شيء سوى بعض الأخشاب ورائحة الجعة التي ترافقني بعد ذلك في كل مكان وشاشة صغيرة تعرض فيلماً وثائقياً أو هكذا أتصور لأنني لم أنظر إليها إذ دعاني النادل ليقدم لي كأساً مجانية تقوم مقام مرشد المتحف، ربما هذا ما يطلق عليه البلجيكيون خفة الدم التي يعتقدون يقيناً بأنها إحدى سماتهم - هناك في الجينات - على أني لم أتقاطع معها أبداً.
قررتُ أن أتجول بعربةٍ يقودها خيلٌ أبيض - مع أن الخيل الأدهم كان أحد أحلام الطفولة التي تنازلت عنها - وكانت المفاجأة أن الآنسة الشقراء التي تبدو من بعيد توأم ميشيل فايفر ومن قريب توأم كيت وينسلت وعندما تقف قبالتها تجدها مجرد آنسة شقراء لا تشبه غيرها وإن كانت حظوظها قائمةً جداً في السعادة من وجهة نظري الشخصية، أقول إن تلك الشقراء كانت هي الحوذيّ. يبدو أن فتيات بروكسل عمليات جداً، يفضّلن الأحصنة البيضاء بلا فرسان الأحلام. كانت الجولة قصيرة، يمكنها فقط أن تثير حماسة سائحٍ آسيوي - ليس أخرقاً بالضرورة - ثم تجولت في أسواق الأنتيك. أنتيك على مدّ البصر وحتى عندما تغمض عينيك لا بد أن تشاهد أكثر من تحفة تتراوح أسعارها بين مئات وآلاف اليوروهات. نستالوجيا نحاسية باهظة الثمن وحنين الرخام الطفولي إلى الماضي، ولكن أقدامي تجمدت في متجرٍ للحيوانات المحنطة. لطالما حلمت برأس أيلٍ يتخذ جدار صالتي جسداً ويشرف على مكتبة البيت، يشاهد معي الأفلام ويشجع مدريد ويستمع جيداً إلى قصصي ثم يبدي كل مرة رأيه الإيجابي. كان المنظر مرعباً وقد قلت للبائع إنني قبل الدخول شاهدت بعض الصينين - سادة الأرض الجدد - وهم يخرجون مرعوبين تماماً والآن أشعر مثلهم بالرهبة لا بالدهشة كما توقعت. خرجت وتنازلت ببساطة عن حلمٍ آخر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..