خمس قصص من مجموعة "العالق في يوم أحد".





( حوادث الأيام )
  
أطلُ من النافذة على أيامي.
  يقود الثلاثاء بحذر رجلٍ في الستين سيارةً من طراز تويوتا، لا يتجاوز السرعة القانونية، ويلتزم بتعليمات المرور. أما الأربعاء، فيقفُ خلفهُ في محطةٍ ليتزود بالوقود وبعض الحلويات والمشروبات الغازية.
  أكاد أسمع هدير محرك البورش ليوم الخميس، سيقودها باستهتار شابٌ وسيمٌ يُشبه جيمس دين. يبدو أنه هو فعلاً إذ يلقى مصرعهُ كل مرةٍ بعد أن تنكسر عنقه إثر حادثة ارتطامٍ بسيارةٍ أخرى. ربما كانت الجمعة، أظن أن تلك السيارة تخص طليقتي. لا أدري لماذا تتعمد هذا الحادث نهاية كل أسبوع، ولا أدري لماذا لا يتفاداها هو الآخر. سئمتُ من تنبيهه كل مرة، ألوح بيدي محذراً ولكنه يزيد من سرعته كلما اقترب من هذا التقاطع. ألا تكون المشكلة في المكابح؟
  كلما هاتفت طليقتي متوسلاً بأن تتجنب الارتطام بأيامي، تغلق الهاتف، أو تعطيه زوجها ليشتمني ويهددني بالقتل.
  ستأتي الجمعة للأسف بعد فوات الأوان، مثل سيارة إسعافٍ متأخرة. أما الأحد فعربة مصفحة تحيط بها من الأمام والخلف مركبتان للشرطة: السبت والاثنين.
  وهكذا تسير أيامي، الإشارات الضوئية إما عطلانة وإما مسروقة. من يصدق أن هناك من يسرق إشارات المرور؟ ربما كان اللص مهووساً بتنظيم أيامه.
  حتى الشهر لا أتمكن كل مرةٍ من اللحاق بحافلته. أصِل متأخراً بضع ثوان، أركض خلفه ملوحاً فيشير بيدهِ أنِ انتظر باص الشهر القادم. وعندما أنتظر في موقف الباصات يتجاوزني الشهر بنزقٍ متحججاً بامتلاء مقاعده الفارغة.
  تسللتُ ليلاً إلى باص الشهر الذي يليه، واستلقيت على مقاعد الصف الأخير، وفي الصباح فوجئت بأن الباص خارج الخدمة.
  عدتُ إلى الشقة، وأغلقتُ النافذة بالطوب. ما عدت أنتظر، ومع ذلك، بين حينٍ وآخر، تتوقف أيامي بكل لؤم وتدعوني إلى مرافقتها، لكنني أتجاهلها بالطبع.



( الآخر )

  يخاف المرآة، يخاف أن تعكس صورة رجلٍ لم يلتقِ به من قبل، فيحدق إليه طويلًا ذلك الرجل، ولا يتزحزح عن مكانه حتى عندما يغادر الغرفة.
  يخاف أيضاً ألا تعكس صورته، أن يظهر كل من في المكان إلا هوَ ينزلق إلى الجانب الآخر من المرآة، الجانب الرصاصي اللصيق بالجدار، حيث يتراكم الغبار فوق صورنا القديمة.
  يُنزِل المرآة، ويجعل وجهها إلى الجدار، لم يكن على الإنسان أن يخترع شيئاً مدمراً كهذا. لو شاء الرب أن نحدق في وجوهنا طوال الوقت، لجعل أعيننا في باطن أيدينا. يتساءل: أليس الإنسان مرآة الإنسان؟

  يخاف المرآة إلى درجةٍ لم يعد يتوقف أمامها حتى عندما يغسل أسنانه، أو يحلق ذقنه، خصوصاً عندما يحلق ذقنه. يخاف، وفي يده موس الحلاقة، أن يلتقي بالرجل الذي خرب حياته.


( ما تفعلهُ أجسادنا أثناء النوم )



ننام، نغط في النوم، يسيل لعاب بعضنا ويشخر، ويبقى البعض الآخر مهذبًا حتى أثناء النوم. ننام فتنهض أجسادنا لتعيش حياتها المستقلة، وكما نجرها أثناء الصحو، تجرنا أثناء النوم، وإلا لماذا نصحو متعبين في بعض الأيام؟
  ما إن ننام، حتى تتقيأ أجسادنا كل المنبهات، والمنومات أيضاً، بل وحتى الأطعمة التي لا تروق لها، ولولا أن بعض الأجساد أكثر وعياً من مُلَّاكها لاستفرغتْ حتى الأدوية.
  تمضي الأجساد إلى المطبخ لتناول الإفطار، فإن لم تجد ما تشتهي، طرقت أبواب الجيران فتبادلت الحديث والشكوى. ليس بالضرورة أن يكون ذلك الجار من أصدقائنا، ربما كان عدواً. للأجساد صداقاتها الخاصة، وهذا ما يجعلنا نرى الكثير ممن لا نعرفهم في أحلامنا، وهذا ما يجعلنا أيضاً نشعر بميلٍ خفي إليهم في أوقات الصحو.
  ما كنت لأعرف كل هذا لولا اللوثة التي أصابت جسدي فتحول إلى نباتي. كنا نجد السعادة والسلوى في اللحوم والسجائر حتى راح يقدس الألياف والبقوليات. كلما نمت تقيأ شرائح الستيك. أصحو فأتقيأ بدوري الخضروات المسلوقة التي سهر على تناولها. كان يرمي سجائري ويدس في جيوبي علكة النيكوتين. ظننت حينها أن طليقتي تشجعني على الإقلاع عن التدخين. كانت المسكينة تلتزم لشهور بحميةٍ قاسية، ولأن جسدها لم يتبع هذه الحمية لم ينقص وزنها أبدًا.
  كنا نعاني بسبب أجسادنا، لعلها كانت تعاني بسببنا أيضًا. لم تتوافق أجسادنا أبداً، في الصحو نبدو زوجين مثاليين ولكن بمجرد أن تضع رأسها على كتفي وأترك يدي على خصرها حتى يشتبك جسدانا في شجارٍ عنيفٍ أثناء النوم. نصحو على كدماتٍ خضراء وخوفٍ أزرق. خشيت أن يؤذي أحدنا الآخر، فطلقتها.
  أعيش وحدي الآن مكرساً وقتي بالكامل لدراسة الأجساد ورصد سلوكها. عندما يكون الجسد سعيداً تغمرنا الأحلام، وعندما يكون في مأزق تقع الكوابيس، وما إن يتعقد الأمر حتى يتحول إلى جاثوم. البلل والانتصابات لا أظنها بحاجةٍ إلى الكثير من الشرح. غياب الأحلام يعني أن أجسادنا تشعر بالخمول وتود قضاء الليل كله في السرير، أو ربما كانت تخفي علينا أمراً فتعصب أعيننا كما نعصب أعين الخيل.
  عندما نوشك أن نصحو تركض أجسادنا عائدةً إلى السرير، فتقفز فوقه، فنشعر كما لو أننا نسقط من الدور العاشر، ولكن بعض الأجساد بليدة، تتوه ولا تعود في الصباح، فيعثر عليها الناس في الشارع، ويصفعونها حتى تتوقف عن السرنمة.

( هاوية على الطراز المعماري الحديث )


  "لو انتظرتْ زها حديد قليلًا"، تأوه متحسرًا.
  وبعد دقيقة صمتٍ أضاف: " حسنًا، لا بد أولًا أن تكتسب الهاوية سمعةً حسنة. ليس من الحكمة أبدًا أن تقبع طوال قرونٍ في الأسفل. يمكننا أن نجعلها تصعد إلى الطابق العاشر مثلًا. ما المانع في أن تُطِل على البحر أو على حديقةٍ عامة؟ ولماذا يجب أن تزل قدم أحدهم حتى يذهب إليها؟ يمكنه ركوب المصعد، وإن كان من هواة الرياضة، فليطلعِ السلالم. لا بد من لافتاتٍ كبيرة الحجم، مضيئة وثلاثية الأبعاد، تشير بدقةٍ إلى الهاوية حتى لا يتيهون عنها. دعوني أذكركم بضرورة التوقيع على بعض الأوراق الرسمية قبل الدخول، إجراءات شكلية لا مفر منها تتعلق بالتأمين وما إلى ذلك. أقترح أن نغير أرضية الهاوية، لتكون من السيراميك أو الباركيه أو حتى الرخام. أقترح أيضًا تعليق بعض النسخ غير الأصلية بالطبع لشاغال وكائناته الطائرة، لإضافة الطابع الفني وحس الدعابة في الوقت نفسه. واي فاي مجاني، وصالة رياضية مزودة بأحدث المعدات. هاوية على الطراز المعماري الحديث دون أن يقلل ذلك شيئًا من أصالتها بحيث لا يفلح المستثمر في الخروج منها أبدًا".



( شارب فريدا كالو )

  لم تنجب حتى الآن، ولا يظنها ستنجبُ أبدًا.
  كانت السنوات الأولى سنوات ترقبٍ عظيم. يفرحانِ كلما تأخرت الدورة الشهرية يوماً أو يومين، ويغضبانِ كلما بكَّرت وإن تظاهرا بغير ذلك. في السنة الرابعة تقبلا الأمر على مضض. لم يذهبا إلى عيادات الإنجاب. كان هذا رأيه، قال بوضوح إن هذه الفحوصات سوف تهدم الذي بينهما إن عاجلاً أو آجلاً. لا، لم يذهب وحده إلى الطبيب، لا تأخذكم الظنون، ولم تذهب هي أيضًا وإن كانت قد حجزت موعداً، وتخلفت عنه في اللحظة الأخيرة.
  كان عندهما في الحقيقة بصيصٌ من الأمل حتى السنة السابعة. قال في سريرته وهو يتأملها: "إنه القدر، وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، من الأفضل أن يذعن المرء راضياً". قالت في سريرتها وهي تتأمله: "إنه القدر، ولو سخِط المرء وخبط الأرض بأقدامه كالأطفال، سيذعن أيضاً".
  كانا مثل سائر الأزواج يتخاصمانِ على الأمور الصغيرة أكثر من الكبيرة، والخصام أمرٌ صحي بل ضرورةٌ حياتية. وكانت في البيت غرفةٌ خاصة للخصام، ينعزل فيها أحدهما عندما تتعقد الأمور، فلا يخرج قبل أن يعتذر الآخر.
  حمل الزوج وسادته وفراشه دون أن يتخاصما هذه المرة، ومضى إلى تلك الغرفة، ولو تأخر قليلاً لسبقته الزوجة إليها لأنها كانت تنوي فعل الأمر نفسه.
  لم يحدث شيء تقريباً لولا أن شعره أخذ يتساقط، شعر الجسد لا الرأس، لأن شعر الرأس كان ينمو بغزارة حتى انحدر على كتفيه في الوقت الذي راح جسده يتحول تدريجياً إلى جسدٍ أمرد. استدار صدره العريض، وصارت أثداؤه تندفع شيئاً فشيئاً إلى الأمام، حتى صار يخفيها تحت قمصانه الواسعة. وصغُر ما بين فخذيه إلى أن استيقظ في أحد الأيام فلم يجده.
  كانت أياماً عصيبةً عليهِ وعليها أيضاً. اخشوشن صوتها، وجفت حلماتها، حتى صارت مثل الزبيب. وتسطحت مؤخرتها المستديرة، فصارت كالمقلاة، وظهر عندها ما افتقده زوجها، وبدأ يكبر يوماً تلو الآخر.
  ما زال في غرفته وما زالت في غرفتها. يخرجانِ فقط ليتناولا الطعام معاً، ولكن بصمت. كلما سقطت شعرةٌ من شاربه نبتت تحت أنفها، حتى صار لها شارب فريدا كالو، وصار الأمر في منتهى الوضوح.
  ارتدت قميصه الأزرق، فناسب مقاسها الجديد، وعندما وقف أمام المرآة ليجرب بيجامتها الوردية بدا مثل طائر الفلامينغو حتى أنه وقف لدقائق على ساقٍ واحدة. عادا للنوم معاً، ولترقب الدورة الشهرية مثلما كان الأمر في السنوات الأولى، بل وأكثر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..