من أحلام عبدالقادر وساط..



رأى الشاعر والقاص عبدالقادر وساط، فيما يرى النائم، أن آلاف الرسائل تحيط به واقفةً من كل جانب مثل سكارى في زقاق. ولما كان ينوي الخروج من مقر جريدة الاتحاد الاشتراكي، أزاح بعضها بما يسمح لجسده بالمرور، وفي هذه الأثناء انتبه إلى أن الرسائل تخلو من اسم المرسل ومدينته. فض إحدى الرسائل وأخذ يتمعنها طويلا، ثم فض رسالةً أخرى وثالثة وهكذا حتى بلغ الرسالة العاشرة ثم توقف. صار من السهل عليه أن يخمن ما تقوله بقية الرسائل إذ كان أغلبها لا يتجاوز سطرا واحدا، بل هو السطر نفسه في كل رسالة، حتى الرسائل الطويلة لا تعدو أن تكرر ذلك السطر: "بَلينا وما تبلى النجوم الطوالع".

وحين خرج إلى زنقة الأمير عبدالقادر لم يجد الزنقة ولا الأمير. هالهُ أن رأى فوق كل حبة رمل ناطحة سحاب. أغمض عينيه فعادت الزنقة واختفت ناطحات السحاب، لكن الناس راحوا يسيرون عبر الجدران، بل ويعلقون الصور في الهواء فكأنهم يقيمون في قصيدة لنيرودا لا في الدار البيضاء. أسلم نفسه لقدميه كما يسلم الفارس الجريح نفسه لجواده الأصيل فيحمله إلى البيت. 

حملت قدما عبدالقادر، من تلقاء نفسها، سي عبدالقادر إلى الكاردينال، ولما دخل وجد نفسه في مقهى ريك الشهير، لا ذلك الذي شُيِّد في الدار البيضاء مطلع الألفية في محاكاة لفيلم كازابلانكا، بل مقهى الفيلم نفسه حتى بات يرى كل شيءٍ بالأبيض والأسود، الثريات النحاسية والقبة ثمانية الأضلاع والمصابيح والأقواس والنخيل والبيانو الذي كان بطبيعة الحال أبيض. وبينا هو كذلك ارتطمت بكتفه امرأة فسارعت إلى الاعتذار ليجد أمامه انغريد بيرغمان. كانت أجمل بكثير من صورتها في الفيلم، حتى أن كل حركاتها بدت مثل حركة أولى لسيمفونية أو لجنين. قالت بلطف: هل آلمتك؟ فأجاب على الفور لا بالطبع، ثم تشجع فسألها هل كنت ستشعرين بتأنيب الضمير لو قلت نعم؟ قالت وهي ترنو إليه في أسى: "أشعر بالذنب طوال حياتي". اعتذرت مرةً أخرى ومضت إلى البيانو وقالت: "سام، اعزفها مرةً واحدة لأجل الأيام الخوالي". ما إن طارت نغمات البيانو في المقهى مثل الفراشات حتى عمّ الصمت وتوقفت المحادثات الجانبية ثم غنى سام:" بلينا وما تبلى النجوم الطوالع".

وما إن انتهت الوصلة الغنائية حتى عاد الزبائن إلى الحديث الصاخب. انتبه حينئذ عبدالقادر وساط أن كل الأحاديث -فوق الطاولات وتحتها- الصاخبة والخافتة والضاحكة والغاضبة تقول الشيء نفسه ولكن بنبرةٍ مختلفة: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع!

هزّ مؤلف "النمر العاشب" كتفيه بنوع من الحيرة، ثم مضى خارجًا بخطى مسرعة. كان يلهث مثل الخيل المذعور في غورنيكا بيكاسو، حتى أن لسانه المدبب ارتفع في استغاثة، وكانت ضربات قلبه المثارة تقرع في النبضة الواحدة أربع مرات كأنها ضربات القدر في مقدمة السيمفونية الخامسة لبيتهوفن. ولم يهدأ حتى رأى سي أحمد بوزفور يفتح ذراعيه مرحبًا وما إن عانقه حتى همس في أذنه:....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..