عُد يا كورتاثار..





عندما أعلن رئيس منظمة الصحة العالمية رسمياً أن الكورونا باتت جائحة كنت في المكتبة أشرح لكتبي خطورة الأمر وأنني ربما سأضطر إلى تركِها والسفر إلى مدينةٍ أخرى للالتحاق بأمي. وقفتْ الكتب في ذهول، وبعد هنيهة تساءلت كتب الاقتصاد في هلع ماذا سيحدث، فضحك ماركس، وسارعت كتب التاريخ إلى التفتيش في ذكرياتها القديمة، في الوقت الذي تجهمت فيه كتب الفلسفة أو لعلها وُلِدت هكذا، وانشغلت الروايات بنفسها وكذلك كتب الفن التشكيلي، أما كتب الشعر فمالت نحو النافذة وراحت تحدق في النجوم كعادتها كل مساء. كان علي أن أختار الكتب التي سترافقني وهي قليلة بالطبع مهما كثرت، وبينما أنا كذلك تذكرت السؤال التقليدي السخيف: أي كتابٍ ستحمله في جزيرة معزولة؟ ما دفع حنه آرندت إلى السخرية بقولها: "الجواز الأمريكي". غني عن القول أن لا عاصم من الكورونا اليوم. وقفتُ طويلاً ثم حسمت أمري بصعوبة، حملت سيرة فولتير، وحجلة كورتاثار، وجبل مان، وعزلة ماركيز وحرب يوسا وفي هذه الأثناء ارتمت على قدمي بعض الكتب مثل قطط فحملت لحن ثيلا وقصص مياس وكتب أخرى. تعمدت أن يكون بعضها من المفضلات وبعضها الآخر من المؤجلات، وأن تكون كلها من الوزن الثقيل. من غير المعقول أن تدخل اليوم حانة، والمكتبة حانة بشكل أو آخر، لتشرب بيرة وأنت أحوج ما تكون إلى الرم، وهكذا اخترت هذه الكتب التي إن لم تذهب عقلي فستذهب حتما قلقي. وبعد أن حزمت الحقيبة على عجل، وقفت لأودع المكتبة فودعتني الكلاسيكيات كما تودعنا الجدّات الطيبات بل ورددت كما يرددن: "الله لا يجعله آخر العهد". أدارت بعض الكتب ظهرها مثل امرأة غاضبة، واختفت بعض النوفيلات اللاتي لا يطقن لحظات الوداع، وتقدمت مني كتب كالفينو فاحتضنتني وأهدتني مسافر الشتاء كتميمة.

وهكذا قرأت الحجلة طوال الأسبوع الماضي، ظللت أصارعها وتصارعني مثل حمى. والكتاب كما هو معلوم من علامات الأدب اللاتيني، وقد نوّه كورتاثار في مقدمته إلى أن الحجلة كتابين على الأقل، أما الأول فيُقرأ من الفصل الأول حتى الفصل السادس والخمسين في قرابة ٥٠٠ صفحة لكن الكتاب الثاني يُقرأ بتسلسل مختلف كما لو أنه دليل الهاتف. لا بد من قراءته وفقاً لخارطة كان قد أعدها كورتاثار ليرشدنا في متاهته أو ليتعمد تضليلنا. الفصل ٧٣ ثم الأول ثم الثاني ثم الفصل ١١٦ ثم الثالث ثم الفصل ٨٤ وحتى النهاية وهكذا سينتهي بك المطاف لقراءة الكتاب الأول مرتين وإن بترتيب مختلف. لكن كورتاثار في إشارة استفزازية قال إن الكتاب الأول قد يغني عن الثاني وما كنت لأصدقه لأنه يقول أيضاً ربما كانت القراءة بتسلسل خاطئ هي الطريقة المثلى لقراءة هذا الكتاب! هذا رجل يدعوك بطلهُ إلى رمي الواقع من النافذة، ثم يدعوك بعدها إلى رمي النافذة. كان نيرودا قد قال ما معناه: "من لم يقرأ كورتاثار هو قارىء فاشل، فعدم قراءته تشبه مرضاً لا مرئياً يمكن أن تكون له، مع الأيام، عواقب وخيمة. عدم قراءته تشبه ألا يجرب المرء أكل الخوخ. سيتضاعف حزنه رويداً رويداً وسيبدو شاحباً، وربما راح شعره يتساقط تدريجياً". ورأى فوينتس أن كورتاثار يقود حصانين بيدٍ واحدة. ماركيز أيضاً تغنى بموسوعية الأرجنتيني إذ راح ينصت إليه دون أن يقاطعه مرةً واحدة في رحلة امتدت خمس ساعات، وكذلك يوسا الذي كان شاهداً على عبقرية كورتاثار، وقد كانا يقيمان في باريس تلك الفترة، وكم تعجب من كورتاثار وقد كتب رواية بهذا التعقيد دون خطة. لكن قصةً واحدة فقط من قصص كورتاثار ولتكن مثلاً "وردة صفراء"، أو قصيدةً واحدة من قصائده ولتكن "في المستقبل" ستخبرك عنه أكثر مما قاله هؤلاء، بل وأفضل.

ولتقرأ هذا العمل لا بد أن تكون نداً لكورتاثار، ولن تكون لذا لا بد أن تتحلى بالصبر. ذو القرنين الأرجنتيني مفكر جامح، وناقد أدبي وموسيقي، وشاعر، وباحث،  ويحيط بكثير من العلوم وهو إلى ذلك مجنون تماماً ولا سبيل لشفائه. هو ساحر أيضاً، لأنه سيجيب على كل التساؤلات التي تدور في بالك كلما تقدمت في القراءة، وقد علم أن كثيراً من القراء لن يصمدوا فقال بصراحة على لسان إحدى شخصياته أنه لا يكتب لمن يبحث عن الحلول أو المشاكل الزائفة التي تسمح له أن يعاني بشكلٍ مستريح. وفي موضع آخر يؤكد ساخراً أنه لا يريد أن يكتب كتاباً يُقرأ من صفحته الأولى حتى الأخيرة. هو لا يتمرد على الشكل فقط بل حتى الجوهر، وينادي في كل فصل إلى تدمير الأدب واللغة وتشييدهما من جديد ولا أستبعد بعد ذلك أن ينادي بتدميرهما مرةً أخرى. كورتاثار لا يريد قارئاً خاملاً، هو يبحث عن قارئ فطن، ليس بحاجة ليد تأخذه، بل هو من يأخذ بيد الكاتب، يقرأ كما لو أنه يلعب الشطرنج وإن كان كورتاثار لا يلتزم بالقوانين فيحرك أكثر من حجر في وقت واحد وهذا ما يضاعف من تعقيد الكتاب وعظمته. هذا الكتاب مثل قطارين أو ثلاثة، ما إن يركب القارئ حتى تندفع بأقصى سرعة إلى الأمام والخلف في وقتٍ واحد عبر أكثر من طريق قاصدةً أكثر من وجهة هي الوجهة نفسها ربما. أعدت قراءة بعض الفصول مرة واثنتين وثلاث وبعدما انتهيت من الكتاب رددت ما وجده الكاتب والناقد التشيلي آريل دورفمان على أحد جدران بوينس آيرس قبل سنوات: "عُد يا كورتاثار، وهل يصعب عليك الرجوع!". بدا هذا النداء الرقيق مستحيلاً، وقد فكرت أن من كتبه/ا راهن على غرائبية كورتاثار وقدرته على العودة من الموت. ثم تذكرت قصةً لكورتاثار بعنوان "رسوم على الحائط" وفيها يرسم أحد المتمردين على الجدران فيجد رسماً صغيراً بجانب رسمه مثل جوابٍ على رسالة وهكذا تصبح الجدران الثابتة سعاة بريد وتنشأ علاقة فريدة من نوعها حتى في القصص. أفكر الآن ربما عاد كورتاثار وكتب جملة رقيقة على ذلك الحائط. ليت آريل دورفمان يتأكد من ذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..