من أحلام أحمد بوزفور

 



رأى أحمد بوزفور فيما يرى النائم أنه يقطع الصحراء المغربية على فرسٍ أدهم. أجال النظر مثل عُقاب فلم ير غير أطلالٍ بالية كأنه يرتحل في مطالع المعلقات. كانت فرسه تخب في غير عجلة فراح يُلاعبها مثلما يُلاعِب الجدُّ حفيدته فيمسح وجهها ويسأل: أأنتِ وردة؟ "ذات الكفل المزحلق والمتن الأخلق." أم أنتِ حُذَمة؟ "إن أقبلت فقناةٌ مُقوّمة، وإن أعرضت فذئبةٌ معجرمة." أم تُراكِ هُذلول؟ "طريدُهُ محبول وطالبُهُ مشكول." حرونية الأنساب أم أعوجية أخبريني؟ كانت الفرس في كل مرة تنفي بحركةٍ من رأسها وتصهل ضاحكةً فلا أحد -غير أمها- يعرف من تكون حتى الغندجاني وابن الكلبي.

 

وبينما هو كذلك إذ بلافتة مرورية في كبد الصحراء تشير إلى نهاية الطريق. ترجل وأمعن فيها النظر، ثم خطا خطوةً واحدة بعد اللافتة فإذا الطريق لا يزال هناك. نحنُ أدرى، قال بوزفور. لا ينتهي الطريق حيث يقف المرء بل حين يصل. ولا حتى حين يصل، قالت الفرس. قام إليها فوثب وقبل أن يستوي عليها ترامت وراحت تسبح في الرمل يوماً وليلة حتى خاف عليها ثم منها حين انتبه إلى منخرها وقد صار مثل الكير. بُوغِت أنه على متن بوكيفالوس حصان الإسكندر الشهير. كان الجوع قد بلغ من الحصان مبلغه، وليس ثمة مرعىً قريب، وإن صحت الأسطورة التي تزعم أنه كان يأكل من لحم البشر فلا بد أن بوكيفالوس آكلُه. ما كان بوزفور ليأكل من لحم الحصان ولو هلك، فإذا هو يجد نفسه مع الحصان الوحيد الذي يتشهى لحم الإنسان.

 

فجأة أبصر امرأة تستنجد راكضةً نحوه. كانت أجمل امرأة مذعورة في العالم. كم يسهل على المرء أن يغدو بين يديها عنترة بل ويغدو جواده الأبجر، وهكذا شرع يرتجز:

لا تعجلي أشدُد حزام الأبجرِ

إني إذا الموتُ دنا لم أضجَرِ

ولـــم أُمَنِّ النفـسَ بـالتــأخُـرِ

 

يمّم فرسه شمالاً حيث أشارت المرأة فإذا قلعةٌ عظيمة خلف الجبل. كان الزمن قد علّمه أن القلاع في نهاية المطاف كلها من رمل. كلما ارتجز راح الحصان يكبر ويكبر ويكبر حتى إذا دنا من بوابة القلعة ليهجم عليها توقف الحصان تماماً عن الحركة. همس في أذنه: أقدِم يا أبجر، أقدمِ يا بُجير، ما لك لا تقدم؟

أقدِم بُجيـرُ إنه يـومٌ نُكُـرْ

مثلي على مثلكَ يحمي ويكُرْ

قد نفِدَ الضِرسُ وقد طالَ العُمُرْ

لكن الأبجر أبى أن يتقدم ولو نصف خطوة. راح بوزفور يرتجز غاضباً:

أقدِمْ بجيرُ لا تكن خنوسا

لأطعنَنَّ طعنةً قَـلُوسـا

من لا يُطاعِن لا يكن رئيسا

 

عندئذ انتبه بوزفور إلى أنه كان يعتلي حصاناً عملاقاً من الخشب. نظر إلى القلعة فإذا هي طروادة، وإذا رايتها ترفرف أعلى البرج فحدثته نفسه قائلةً: "ما من راية ترتفع إلا وتنتصب تحتها شواهد القبور." وما إن فُتِح بابها حتى خرجت الأميرة هيلين فلم تكن غير تلك المرأة المذعورة التي استنجدته. "ما أشد جمالها." قال بوزفور. برز الرماة وكانوا ألفاً، صوّبوا سهامهم في انتظار إشارة من هيلين زوجة ملك الإغريق المُقرّن. "لا بد أن تكون هذه أكبر فصيلة إعدام في التاريخ." قال بوزفور. طأطأ الحصان الخشبي رأسه في إشفاق. وإذ ذاك أطلق ألفُ رامٍ ألفَ سهم فتشابكت السهام وراحت تكسر بعضها البعض فلم يُصَب لحسن حظه بخدش. لو كانوا ألفاً وواحداً لربما قتله السهم الأخير. الحمقى، صرخت هيلين. أمرَتْ بقوسٍ وسهم ثم أشعلت رأس السهم وسددته إلى هيكل الحصان الخشبي فراح يشتعل. حار بوزفور أيهما أبشع، الموت بألف سهم أم بحريق واحد. وبينما هو ينتظر النهاية راح الحصان يتحرك شيئاً فشيئاً حتى انطلق يرجم الأرض بحوافره بعدما أخذ المقاتلون الإغريق في جوفه يدفعونه خشيةَ الموت حرقاً. كان مضيق الدردنيل غير بعيد وفي طريقهم إليه رأى بوزفور أغاممنون قائد الجيش الإغريقي يتوعّده بالقتل وقد كشف حيلته التاريخية.

 

عبر الحصان الدردنيل لكنه وقد اشتعلت قوائمه تهدّم وبات يصغر ويصغر ويصغر حتى صار بحجم حصان البحر. ظن بوزفور أنه لن ينجو هذه المرة. أغمض عينيه وعندما فتحهما وجد نفسه على الشاطئ وبجانبه حصان أبيض مطوق بالجواهر كأنه ملاك أو حصانٌ لملاك. ركبه فجعل يمشي متبختراً كأنما يمشي بِكُمٍّ مُسبلٍ مثل وزير أو عضو في مجلس الشيوخ. لقد كان هذا حصان كاليغولا الشهير، وقد كان عضواً في مجلس الشيوخ أيضاً. كان الإمبراطور الروماني المجنون قد دخل مجلس الشيوخ بحصانه هذا فلما استنكر البعض قال السفاح كاليغولا إنه أفضل من الكثير منكم وهكذا صار الحصان عضواً. ترجل بوزفور، فهو يحب في الخيل الكبرياء لا الغرور.

 

راح يمشي في الليل ويعثر بالقتلى كأنه يخوض في مقبرة مكشوفة. كان مثل ذلك الجندي الذي تخلف عن سريته لبعض الوقت فلما لحقهم، وجد السرية قد أبيدت بالكامل فصرخ صرخته الخالدة والمناهضة لكل الحروب: "أفيقوا أيها الموتى." نام فأيقظته فلاشات الكاميرات وهي تلتقط صوره فوق حصان الغورنيكا. كان حراس الأمن في متحف الملكة صوفيا بمدريد يأمرونه بالخروج فوراً من جدارية بيكاسو. أبلغ مدير المتحف السلطات الرسمية عن مهاجر غير شرعي تسلل إلى البلاد ثم تسلل إلى الغورنيكا. تمنى بوزفور عندئذ لأول مرة لو كان هذا حلماً. نخس حصان بيكاسو بالمصباح الذي في اللوحة فإذا هو يذرع في الوثبة الواحدة سبعاً وعشرين ذراعاً مثل حصان الملك السكران الذي ما كان يرجع من دون الثريا. كان سيده قد عوده على صدم الكتائب "فانثنى وله إلى صدم الكواكبِ مطمعُ." وبعد بضع وثبات وجد نفسه يعود إلى الصحراء المغربية.

 

كان حصانه الأدهم هذه المرة يقبل ويدبر في غير حاجة وعلى نحو غريبٍ وطائش، خطوة إلى اليمين أو اليسار ثم خطوتان إلى الأمام أو الخلف حتى ارتمى بوزفور وترك حصان الشطرنج يعدو وحده في الصحراء مردداً بصوتٍ عالٍ: "الخيول لا تموت تحت السقف." استيقظ بوزفور، وما أكبر سعادته حين وجد نفسه في البيت. كان الهاتف يرنّ، وإذا بصوت صديقه القديم عبد القادر وساط يعلن عن زيارته بعد نصف ساعة. رحب به بوزفور وقال إنه سيترك له الباب مفتوحاً ثم ذهب ليستحم ويغسل عنه غرابة الحلم.

 

في مطار الملك محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء هبطت طائرة الخطوط اليونانية. نزل منها سائح شاب، ولما ختم جوازه وحمل حقيبته الصفراء ركب التاكسي فرحب به السائق. "فين غادي أسيدي؟" أجاب السائح: "إلى درب عمر." "شنو سمّاك الله؟" فأجاب: "أغاممنون."




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..