كارلوس..


 

في سنّ العاشرة كان كارلوس عندي هو باتمان وسبايدرمان وسوبرمان وعابر الجدران في قصة مارسيل إيميه والكونت مونت كريستو وإن لم يهرب أبداً من السجن. 


كنت في ذلك السنّ قد شُخِّصت بقصر النظر، هذا التشخيص الأقرب إلى شتيمة. كانت المناظر تموج في عينيّ كما تموج لعينٍ اغرورقت بالدموع، أو كما تموج الألوان في لوحات مونيه. لعله هو الآخر كان مصاباً بقصر النظر وما كان ليبرز أسلوبه الفاتن لو لم يكن كذلك! والحال نفسه مع سيزان. لقد ذهبت بعض الدراسات والبحوث الفنية إلى أن معظم رواد الانطباعية كانوا في الأصل يشكون من قصر النظر. زعموا أيضاً أن الاستجماتزما وحدها هي ما دفعت الغريكو ليرسم الوجوه عمودياً باستطالة بارزة. آه من حسد النقاد، وقد كشفتهم وردة على حقيقتهم في أغنيتها "لولا الملامة" حين قالت إنهم زينا عاشقين لكن خايفين لايمين تانيين. 


على كل حال، لم أكن رساماً وقد انتهت الانطباعية منذ زمن بعيد، وما كان ليعزيني في النظارة الجديدة غير خبرٍ في الجريدة لرجلٍ يضع نظارة سوداء يدعى كارلوس الإرهابي أو الثعلب أو المناضل أو الجاسوس أو العميل أو العميل المزدوج أو القاتل المأجور. كان الخبر يستعرض حادثة إطلاق الرصاص من أكرة الباب، وبراعته في اختيار التوقيت والفكرة غير المسبوقة، أن تصوّب النار مثل أعمى، بحاسة السمع لا البصر. لعل من شاهد فيلم "لا بلدة للعجائز" المقتبس عن رواية كورماك ماكارثي يتذكر مثل هذا المشهد. كان خافيير بارديم، وما يزال، أكثر الرجال حظاً ليس لأنه دور لعب البطولة في ذلك الفيلم بل لأنه يلعب الآن دور البطولة في حياة زوجته بينلوبي كروز. وراء كل بينلوبي أوديسة. 


أتذكر في نهاية الخبر أن المخابرات الفرنسية وقتها رصدت عشرة ملايين دولار أو فرنك -إذ لم يظهر اليورو بعد- لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض على كارلوس. كان الفينزولي قد حنّ إلى ملاعب الاغتيال بعد أن تقاعد وعاش حياة الرجال الرتيبة فلم يطقها. كان هذا في التسعينات وقد ذاع صيت كارلوس الذي بدأ حياته بمحاولة اغتيال رجل الأعمال اليهودي جوزيف سييف مالك سلسلة ماركس وسبنسر في لندن فأطلق عليه الرصاص مصيباً فكّه وحينما همّ بالإجهاز عليه توقف المسدس فجأة! لا بد أن أذكر أيضاً أن الملياردير اليهودي كان محظوظاً ليس إلى درجة الارتباط ببينلوبي كروز ولكن لينجو من رصاصة قاتلة ويتعطل المسدس! لهذا يتعين على المرء أن يحمل فأساً مثل راسكولينكوف. 


فرّ كارلوس وظل يقضّ مضاجع السفارات الغربية هنا وهناك حتى صنع تحفته الشهيرة باختطاف وزراء النفط من مؤتمر أوبك في منتصف السبعينات. تلك أزمنة قد خلت، يسافر الناس بالأسلحة الخفيفة والثقيلة إذ لا أجهزة كشف للمعادن في المطارات. يمكنك أن تختطف وزيراً وطائرة ثم تحصل على فدية فتنفقها دفعةً واحدة في منتجع أو ملهى ليلي. رحت بعدها أحرص على قراءة الجريدة حالما يفرغ منها أبي بحثاً عن أخبار كارلوس. كان العمر قد تقدم به وضاق عليه السهل والجبل فذهب ليختبئ في السودان. وأنّى للزول الأبيض أن يتخفى في أفريقيا؟ هذا يذكرني بمايكل جاكسون حين راح بعد سنوات طويلة من تلك الحادثة ينشد العزلة في البحرين. وكيف يعتزل في تلك الجزيرة الصغيرة وقد كنت أطلع إلى سطح بيتنا في مدينة الدمام فأصعد السلم الخشبي وأتلصص عليه بالمنظار، بل لقد كنت أستطيع مشاهدة المطرب خالد الشيخ وأحمد الجميري أيضاً. ما أصغر البحرين إذ يمكن لحبيبن أن يلتقيا كل يوم دون موعد، فإذا افترقا صار على أحدهما أن يغادر الجزيرة حتى لا يلتقي حبيبه السابق. وبعد شهور قرأت في الجريدة خبر القبض على كارلوس الذي حظي بعدها بثلاثة أحكام مؤبدة. 


كنت في العاشرة أو الحادية عشرة، وقد أدركت ماهية القتل ثم أدركت ما هو أخطر من ذلك. رأيت مثل جلجامش كل شيء، رأيت جسد امرأة عارية. لم أشعر بالرغبة شعوري بالغرابة. كل هذه الأقواس القرطبية ومثلثات الجبن والبرمودا وأفراح القبتين وحوادث الغرق والدهس وتصادم القطارات وسقوط الطائرات وحرائق الغابات وانهيارات المناجم دفعةً واحدة. علمتني تلك الذكرى بعد فوات الأوان اللمس بالنظر، ثم صرت من شعراء المهجر دون أن أضطر لمغادرة البيت. أنظر مطولاً إلى راحة يدي التي لم تنطو على مسدس أو فأس أو خصر أو مؤخرة وراحت تمسك الكتب التي تحكي عن كل هذا.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..