"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

 

في التاسعة من عمري أو ربما في العاشرة دخلت أول متحفٍ في حياتي، ولم يكن ذلك المتحف سوى صالة أفراح. كانت صالات الأعراس -وماتزال- تتألف من قاعتين متجاورتين: الأولى للرجال حيث يسود الوجوم والضجر فيقاطعهما بين الحين والآخر سلامٌ حار أو ضحكة عابرة، والقاعة الثانية للنساء حيث تعج الأهازيج والزغاريد والضحكات. وكانت الجدران عديمة الرحمة تقف بين القاعتين مثل عذول، وكان الفرح يعبرها مع ذلك حتى يصلنا صدى رفيف الفراشات. 

وما كان الولد الذي كنته ليعبأ بمصير البشرية كلها حتى يعبأ بأمر العروس والعريس وليلتهما الكبيرة، وهل سينجحان في تدمير بعضهما البعض ما إن يطلع الغد أم يكتفيان ببعض الحب وبعض النكد؟ تزعم أم كلثوم أنه من ده وده الحب كده. وأحسب أن القانون في كل دول العالم يكفل لكل امرئ حق التنكيد على شريكه. وإن لم يكفل في الوقت نفسه حق كل شخص في أن يحظى بإنسان واحد على الأقل يراه أفضل الناس أو أجملهم. على كل حال، ما كان يعني ذلك الولد من الزواج غير المشروبات الغازية المحرمة في البيت، فإذا انتهى العشاء دسّ الولد منا في جيبيه علبة بيبسي وعلبة ميراندا وسار بأورامه الجانبية السائلة يخادع الكبار كما يظن فيخرج إلى الشارع ويعبها دفعة واحدة على مرأى الحارس الذي يجلس عند مدخل قاعة النساء، يسوط بعصاه الهواء مهدداً النعاس والأولاد من الاقتراب أكثر من اللازم. ولما كانت الغواية في الممنوع تحايلت على ذلك الحارس فتسللت إلى القاعة ولم تدرك عصاه غير ثوبي الذي ما كان ليمانع أن يفتدي مؤخرتي. 

دخلت قاعة النساء، أو المتحف، أو الحديقة، أو السحابة، أو مغارة علي بابا، أو بطن التوت. كانت الدفوف ترفع عالياً أغنية نبيل شعيل "ألا يا اهل الرياض أول غرامي". لم أتجاوز المدخل إلا قليلاً خشية أن ترى أمي طفلها الجميل وقد مُسِخ عفريتاً صغيراً. وقفت أنظر إلى القاعة وساحة الرقص حيث تدعو الأمهات بناتهن إلى الرقص ليتفحص العجائز حسن النسل وطيب السلالة. لقد لعبت تلك الساحة البيضاوية في المجتمع المغلق دوراً كبيراً في زواجات ذلك الزمن. كانت مربطاً للنصيب وهذه ليست استعارة. كانت الفساتين ساترة تماماً لا تُظهِر غير النحر وربلة الساق وقد كان ذلك كافياً ليلقى عشرة فتيان مصرعهم في لمحةٍ واحدة. كانت ربلة الساق مثل جنيه الذهب لا كعملات اليوم الخائبة التي بالكاد تغطي تكلفة طباعتها. على أن بعض النسوة -المتزوجات غالباً- كنّ يبدين مفرق الصدر حيث يغني النفيف. كان ذلك المفرق أضيع المفارق. فإذا سلكت اليمين هلكت، وإذا سلكت اليسار هلكت أيضا. كما كنّ يتركن فرجة صغيرة من الخلف لترعى السيقان في الهواء الطلق. أخذتْ هذه الفرجة تطول بتقدم الزمن حتى صارت تعادل اليوم حجم الفستان نفسه. وكان المخمل الأسود وقتذاك هو الموضة -ليتها ما تبلى هالموضة- وقد حُشيتْ أكتاف الفستان بالإسفنج حتى صار لها مظهر قميص لاعب الهوكي. 

ما كنت أعرف بالطبع تلك المفارق ولا النفيف -والنفيف في اللغة هو الهواء ومهوى كل جبلين- ما كنت أعرف شيئاً من هذا بعد، وإن كنت أعرف دوار البحر الذي يصنعه الوجه الجميل، إذ كان البحر أيضاً من صنيعه. لكني كنت أعرف أنني أرتكب خطأ لا يجب فعله على الأقل. 

في مثل هذه الزواجات قد تجود امرأة على ولدٍ بالتفاتة فتسأله ببراءة: من تكون أمك؟ تنحني عليه فتظلله بشعرها الذي يحجب النور ليصاب الولد بالعمى ويتمنى لو دام ذلك. يشم عطرها فيتقن لغة الطيور وحين تطبع على خدّه قبلةً بحافة فمها تسِم ذاكرته إلى الأبد. تُعمِّد الشقاء. يستعذب القبلة ويؤذيه أن تمسح أثرها في الحال بطرف إبهامها. ربما يخفف عنه أن تترك هناك بصمة إبهامها القاتل. يخرج من القاعة فيجلده الحارس بالعصا فلا يشعر بشيء وقد خُدِّر الولد ولن يستيقظ قبل مرور الكثير من السنوات. لقد كبُر في غمضة عين وصار يلعب بقلبه بعد أن كان طفلاً يلعب بمقابس الكهرباء. 

كان اسمها شمّه، تلك التي قبلتني يومها. شم نسيمي الأول، أجمل امرأةٍ في العالم. تسللت لرؤيتها في حفل زواج آخر فصرخت إحدى النسوة: ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟ أي رجل! لقد كان ولداً فحسب. فررتُ ولم أر شمّه بعد ذلك. لعلها الآن جدّة. أجمل جدّة في العالم. هل نال منها السكر والضغط والروماتيزم؟ هل باتت تردد ذلك البيت الذي طالما رددته جدتي: "يقطعك يا دنياً سريعٍ دورها/ لو اقبلت ايامها مقفياتي"؟

ليس عندي تسجيلات فيديو لتلك المرحلة من عمري على غرار أطفال اليوم لكن ما إن استمع إلى أغنية نبيل شعيل حتى تتحول إلى مقطع فيديو فأراني ولداً صغيراً جاهلاً وسعيداً. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

في مديح التنورة القصيرة..