نزهة مع الحوائط
-١-
طوبٌ متجاورٌ أو حجرٌ مصفوفٌ أو قالبٌ من الخرسانة ويكون الحائط. لا بد أولاً من حفر الأرض حتى نمُد جذور الحائط في التراب. كل ما يخترعه الإنسان في النهاية إنما يقتبسه من الطبيعة أو يحاكيها. ألا ترونه يرشّ الحوائط بالماء بعد الملاط كأنه يسقيها.
حائط وحيد: سور، أو ظَهرُ حبيبٍ غضبان ما عاد احتضانه من الخلف آمنا. لو تعانقا لاندلع ماسٌ كهربائي. يبتعد الحبيب فتنمو على كتفيه الناعمتين لفائف الأسلاك الشائكة. تلتمع شفراتها مهددةً راحة اليد. متى صار غريبًا؟
لقد وقف قبالة الحائط في صباه. كان ذلك أول عقابٍ مدرسي؛ الوجه إلى الحائط. أكان ذلك في السنة الثانية أم في السنة الثالثة؟ يحاول أن يتذكر فلا تفلح الإغماضة ولا التقطيبة ولا الكزّ على الأسنان في تذكيره سوى بالشرخ الصغير في ذلك الحائط الأصفر. كبُر وتدرّج في العقاب والألم. من الوقوف إلى الحائط، فالوقوف على ساقٍ واحدة ورفع اليدين، حتى الضرب بالعصا. لقد احتملها بشجاعةٍ بل باستهتار لكنه لا يحتمل أن يمضي بعيدًا ذلك الظهر الغضبان.
-٢-
من منّا لم يلعب الكرة مع حائط بيتٍ مهجور؟ من يتذكر القارورة في ركنه الأيسر؟ لا يكاد يخلو منها حائط قديم. كلما كسرنا قارورةً لندافع عن أنفسنا جاء بقارورةٍ أخرى. باليأس يعلِّمنا الشجاعة كما يُعلِّم البحر السباحة. ربما أطلقوا النار على هذا الحائط وهم يطاردون ثائرًا لتسيل مع النور ذكراه كل صباح. ربما تهدّم ذلك الحائط بعد زمنٍ طويل فصار حلمًا لجندي محتضر. يزحف نحوه بيدٍ، ويضمّ بالأخرى كبده الممزقة. يؤلمه الماء كما يؤلم الزهر الذابل. ما عاد الجندي يحلم بغير حائطٍ يسنده فلا يموت موت الألواح.
-٣-
والحائط نهاية. طريق مسدود. علاج أخير للصداع النصفي. مستشار تربوي. "فليضرب رأسه بالحائط" يقول الأب. لكن الابن عوضاً عن ذلك يثقب الحائط -بالحقيقة أو بالخيال- ثقبا يتلصص منه على زوجين شابين. مسمارٌ حامٍ من اللذة في العين. امرأة تقول: "لا". حركة لسان صغيرة ترفع حائطاً أبدياً بينهما.
-٤-
الغرفة أربعة حيطان. أذن في كل حائط. نافذة للخارج من أجل الضوء والهواء. نافذة إلى الداخل؛ صورة الأب الميت. في القرى القديمة كانوا يثقبون بعض الجدران الطينية لتحدِّث الجارة جارتها دون أن تضطر إلى الخروج من البيت. تعبر الأحاديث عبر تلك الفتحة جيئة وذهابا مثل فأر. من طلب الملح والسكر إلى فضفضة الهم والأرق.
الزنزانة أربعة حيطان أيضا، ولكن من غير نوافذ. كل سجين يحمل نافذته معه. يغمض عينيه فتنفتح النافذة. في السجن الانفرادي يطرق السجين على الحائط فيرد عليه جاره بطرقة وهكذا تدور أحاديثهما الشجية حتى الصباح. الحائط تقويم السجناء. يغرز السجين أظافره على الحائط. سبعة خطوط رأسية وفي اليوم السابع خط أفقي. لقد مضى أسبوع. ثم يغرزها أربع مرات فحسب. لقد مضى شهر. وبعد تسعة أشهر أو عشرة يجد خدوشاً قديمة تحتها لسجين سابق. يتوقف عندها عن الحساب.
-٥-
صادفت في الراديو أمس أغنيةً لأزنافور كنت قد سمعته يغنيها في بيت الدين بلبنان عام ٢٠٠٩. لم أكن أعرف أزنافور يومها. توقفت عند إعلانٍ لصورته. شدّتني يده الخجلى التي يخفيها في جيب بنطاله الأسود. تساءلت كم يخفي من التلويحات هناك. اشتريت تذكرة في الصفوف الأمامية. جلست في الصف الثالث. سمعت وليد جنبلاط يتحدث بالفرنسية إلى وزير الخارجية الفرنسي. لا أعرف من الفرنسية غير je t'aime و merde. غنى أزنافور ورقص ليلتها ثم أبكى الحضور في أغنية واحدة. غشانا من الشجن والأسى ما غشانا. كانت الدموع تبلل وجنتي المرأة التي تجلس بجانبي. لقد شعرت بالأغنية من غير أن أفهم كلماتها. وهل يحتاج الأسى إلى الكلام؟ صبيحة اليوم الثاني ذهبت لمول الأشرفية واقتنيت مجموعة أزنافور البلاتينية. خمسون أغنية أم كانت مئة؟ أسمع الأغنية تلو الأغنية وأهزّ رأسي قائلاً: "لا ليست هذه" حتى عثرت عليها أخيرا. الأسى نفسه، ودموع المرأة تبلل خدّي هذه المرة. لم أفكر في كلمات الأغنية من قبل. كان أزنافور يقول لنا إن حوائط حياته ملساء يتشبث فيها فينزلق. ليتني لم أبحث عن ترجمتها.
"ملساء جدران حياتي
أتشبث بها فأنزلق
رويدًا نحو قدري:
أن أموت حباً
بينما يحاكمني العالم
وقد سدّ دوني كل منفذ
لا أرى لنفسي من ملجأ سوى:
أن أموت حبّا
أن أموت حبّاً
كما قد أموت من أي شيء
أن أترك كل شيءٍ خلفي
ولا أحمل إلا ما كان نحن، ما كان أنتِ"
💔وأنت أبكيتنا بخاطرتك
ردحذف