خرائط الكنز..


 

قبل البورسلان والرخام والجرانيت كانت أفنية البيوت في الغالب من البلاط البلدي المرقط. بلاط تقليدي من الإسمنت والحجر لو رأيته اليوم لعدت طفلا أجري في فناء بيتنا القديم حتى أقف على بلاطةٍ بعينها. كانت تلك البلاطة المربعة غير ثابتة. كلما وطأتها قدمي الصغيرة تأرجحت. لعل العامل أثناء رصفها قد نال منه التعب والسأم، أو ربما لم يكن لديه لحظتها ما يكفي من الملاط، وما كان ليخلط ترويبة جديدة من أجل بلاطة واحدة. أو ربما هي ببساطة أفاعيل الزمن، وماذا لا يستطيع الزمن فعله؟
لا تخلو الأرصفة ولا الأفنية عادةً من تلك الأحجار غير المتماسكة التي تكاد تخرج عن السطح مثلما تفعل الخيوط المنسولة في الملابس. أحجار مازحة لا تدفع أحدًا للسقوط، لكن يسعدها أن تكسر إيقاع المشي، وتشكك المارة لوهلة في توازنهم فيشك المرء في قدمه، وتشك القدم في الحذاء، ويشك الحذاء في الطريق.
كم سرّني الوقوف على تلك البلاطة القديمة، وتأمل بياضها المشوب بالسواد ذلك أني أخفيت تحتها تحويشة طفولتي.
كان الآباء في ذلك الزمن -وحتى الآن- يهدون أبناءهم حصّالات ليتعلموا الادخار ويكفّوا عن إزعاجهم وسؤالهم كل يوم عن الألعاب ومتى سيأتي العيد. وكان الأطفال يرضيهم أن يهزوا الحصالة فتقرقع العملات ليناموا على تلك التهويدة المعدنية. البعض لا ينام حتى يُخرِج كل ما في بطنها ليعدّها من جديد على أمل أن يكون قد أخطأ في المئة مرة السابقة وغفل عن ورقة نقدية أو ورقتين. لكم أكبرت ابن الجيران الذي كان يسرق من حصالات الأطفال، وإن كان ذلك لا يقل بشاعة عن سرقة عجوز عمياء أو شيخ مقعد. لا يصعب العثور على الحصالة إذ يضعها الطفل على الطاولة المجاورة للسرير في الموضع نفسه الذي يضع فيه الكبار كأس الماء. ولما كنا نزور بعضنا البعض في الحيّ يخاتلنا ابن آوى وينسل في هدوء إلى الغرف فلا يفرّغ الحصالات تماما إنما يخطف منها ريالا أو ريالين. ما أكبر خيبته حين وجد حصالتي فارغة تمامًا حتى من الهواء.
كنت وقتها -ومازلت- أحلم بكنزٍ لا بحصّالة بليدة وهكذا رأيت في البلاطة القديمة صندوقًا خشبيًا يحتفظ في جوفه بالذهب والجواهر. رفعت بعد جهدٍ جهيد تلك البلاطة ووضعت تحتها الأرباع والأنصاف والريالات ثم أعدت البلاطة مكانها. أحصيت الخطوات من سريري إلى البلاطة فكانت نحو ثلاثين خطوة يمكنني أن أمشيها معصوب العينين. لا ينبغي للكنز أن يكون قريبا، وهكذا رحت أطيل إليه الطريق كما فعل بيسوا حين راح يخطط على ورقة حتى عثر على الطريق الأطول لاصطحاب أوفيليا من المكتب إلى البيت. ولما كان لكل كنز خارطة، رسمت خرائط للكنز ثم أعدت رسمها من جديد خوفًا من أن تقع في يد القراصنة فأضفت بعض الرموز والشفرات. هذا عالم يسرق فيه الأطفال حصّالات الأطفال. رحت أنزع السجاد في زوايا الغرف لأخفي تحته خرائطي. أضع ورقة في غرفتي تقود إلى ورقة في الصالة تعيدني بدورها إلى ركنٍ آخر في غرفتي وهكذا يصاب المرء بالدوار ويشعر بالعبث. "امش ثلاث خطوات إلى الباب، ثم التصق بالجدار وسر ست خطوات. توقف. عد ثلاث خطوات إلى الوراء. ارفع السجادة." ليجد أسهمًا تعيده إلى الوراء. كانت من بين الأوراق ورقة انتزعتها من شجرة الياسمين الهندي في الفناء ودفنت أسفلها ورقة أخرى. ما كنت أستطيع إخفاء تلك الأوراق في غرفة نوم أبوي إذ كانت محظورة، وما كنت لأخفيها في المطبخ لأنه مأهول طوال اليوم.
بقيت تلك الوريقات في أمان حتى انتشر النمل في البيت وراحت أمي تطارده حتى عثرت عليها. هل خافت وظنت أن إحدى الجارات قد عملت لها عملًا؟ لا أدري، سرعان ما ميزت خطي الرديء، وصرخت: "عبدالله ما هذا؟". ألصقت أمي السجاد بالغراء ورفعت سبابة متوعدة يعرفها الأبناء جيدا بعد أن ألقت خرائطي في سلة القمامة. صار كنزي بلا خرائط ثم اختفى الكنز نفسه بعد سنوات حين عدنا من عطلة الصيف فتوقفنا في أحد الأحياء. قالت أمي بفرح عظيم: "انظروا لقد اشترى لنا أبوكم بيتًا جديدًا."

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وتلفّتَتْ عيني..

الكلام بصوتٍ خافت

عن الخيال: أول ألعاب الطفولة.