عبدالعزيز..



لو سُئلتُ عن طول بال عبدالعزيز لقلت إنه أطول من طريق الشمال أو ١٥٠٠ كم تقريبا. فهو لا يغضب عندما تتأخر عليه، وهو لا يغضب عندما ترجئ اللقاء إلى الغد من دون أن تعتذر، وهو لن يغضب أيضًا لو أخلفت موعدك في الغد أو حتى لو أخلف الغد موعده.

لئن راح بارتلبي يردد بين الفينةِ والأخرى: "أفضّل ألّا"، فإن عبدالعزيز يردد طوال الوقت: "لم لا؟". 

ترجوه أن يقلع عن التدخين، فقد قتلت السجائر أباه من قبل. يترحم عليه مرددًا صدقت بينما يطفئ سيجارته ثم يرمي علبة السجائر في القمامة. وبعد دقائق، يأتي ابن عمه ويمد له سيجارة فيشعلها ثم يترحم على الراحل "ترحيمةٍ تودع عظامه جدايد" كما تمنى الخلاوي. قد يبدو لكم متناقضًا وإن كنت أراه غير ذلك. لم لا يدخن؟ لم لا يقلع عن التدخين؟ لم لا يدخن؟ لم لا.. سيّان عند عبدالعزيز، فالسبب الذي يدعوه ليُقبِل على أمرٍ ما هو ما يدعوه أيضًا ليعرض عنه.

كنا ندعوه "أبو شافي" لأن أحد شيوخ العائلة دعاه كذلك، وقد كان الشيخ شبه أعمى فلم ينتبه إلى أنه مجرد طفل سمين وليس الرجل المعني. وهكذا ظهر أبو شافي وغاب عبدالعزيز، وقد جرت العادة هنا أن يحمل أول الأبناء اسم جده الذي بدوره يحمل اسم الجدّ نفسه، ولا تنقطع هذه السلسلة الطويلة حتى يصاب أحد الآباء بالعقم أو بالعقوق فيجازف في اختيار اسمٍ لم يخطر في ذهن أجداده. والطريف في الأمر أن هذا الاسم الجديد سيتناسل في الأجيال اللاحقة وسيحمله الأحفاد المحكوم عليهم بالتعاسة والضجر، أما المؤلم في ذلك، أن هذه الأسماء التي يثابرون على بعثها جيلًا بعد آخر لن تبعث فقيدا واحدا.

تجاهل عبدالعزيز كل هذا وأسمى ابنه البكر شافي ضاربًا بالحائط غضب أبيه الذي ضاعف من شراهته في التدخين حتى صار يدخن أثناء النوم، وهكذا مات، لا بالسرطان بل بالحريق. صعد بعدها نجم عبدالعزيز مع صعود سوق الأسهم، ولأن زوجته كانت حذرة على الدوام كأنها تقطع الشارع فقد أوصته أن يشتري بيتًا عوضًا عن الأسهم التي لا يؤمن جانبها كالرجال. أقسم عبدالعزيز ألا يشتري بيتًا ما لم تكن تلك رغبة ابنه شافي. سألتِ الأم طفلها شافي الذي لم يتجاوز أربع سنوات ما إذا كان يرغب في قطعةٍ من الشوكولاته. وبعد أسبوع التهم الطفل الشوكولاته، واشترى الأب البيت، وهوت سوق الأسهم. 

قبل الأسهم بعشر سنوات، كان عبدالعزيز يعمل في مكتب البريد مثل بوكوفسكي. كان الأمريكي يتخلف أحيانًا عن تسليم الرسائل أما عبدالعزيز فقد كان يتلصص على الرسائل قبل تسليمها، لا من أجل الفضول -حاشاه- ولكن ليقتطع نصيبه من النقود فقد كانت الحوالات معقدة في ذلك الزمن البعيد، ولم نعرف الحسابات البنكية بعد. كان بعض العاملين في المدن النائية يبعثون لذويهم رسالة طويلة وبداخلها بعض المال. لم يكن يسرق أكثر من ثلاثمائة ريال وقد كانت تكفيه بضعة أيام ليعبث مثل بوكوسكي. لم يكن يؤمن بأن قليل دائم خيرٌ من كثير منقطع ولكنه كان يتفاءل بالرقم ٣، ولما لم يجد في إحدى الرسائل غير ورقتين من فئة ٥٠٠ ريال أخذ واحدة على مضض وترك الأخرى. جاءت في اليوم التالي لجنةٌ من العاصمة فركب سيارته وفرّ إلى الكويت عبر منفذ الرقعي بالرغم من أن منفذ نويصيب يختصر نصف المسافة ٣٠٠ كم، لكنه الخوف. هاتف والدته القلقة بعد أسبوع متلثمًا من هاتف عمومي فقالت تعال أيها الخسيس، ليتني ربضت فوقك حين أنجبتك. كانت اللجنة قد أقيمت لأمرٍ آخر، لكنه الخوف. طُرِد من البريد لتغيبه بدون عذر. 

لا يخشى عبدالعزيز أحدًا، لا يخشى الغد ولا حتى صروف الدهر كأنه الصافي النجفي حين قال : "لئن حرتُ في دهري الخؤونِ وأمرهِ/ فإني تركتُ الدهرَ حيرانَ في أمري". لكنه يخاف الأغاني العراقية تحديدًا، فقد كانت تمرضه، وكم خلفت عشرات الندوب والكدمات بل وحتى الحدبات. شكته أمه لخالها في زمن المراهقة فضحك الخال مرددًا القصة الشهيرة لجدّ عبدالعزيز، وقد كان هذا الجدّ مولعًا بحضيري أبو عزيز -مغني عراقي قديم- حتى أنه استدان وقصد السوق لشراء راديو مشترطًا على البائع أن يغني له ابو عزيز فضحك البائع وباعه. عاد يجري إلى البيت وعندما فتح الراديو لم يجد أغنيته المفضلة "على درب اليمرون". خرج غاضبًا إلى القاضي واشتكاه، ولما جاءوا بالبائع أنكر وأقسم أن ذلك الراديو يأتي بإذاعة بغداد، وليس بوسعه مهما فعل أن يجبر حضيري ابو عزيز على الغناء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..