كانت تعيسة - خوان خوسيه ميّاس



عندما كنت صغيرة، في سنوات طفولتي المبكرة تحديداً، أدركت بأن البشر يمتلكون موهبة الشقاء أكثر من امتلاكهم موهبة السعادة. لذا كان يروق لي منظر الرجال والنساء وهم يكافحون في شبابهم لبناء مستقبلٍ سعيد. وعندما يأتي المستقبل بكل عفوية يكون خالياً من البهجة وغنياً بالبؤس، مما يجعلهم يسقطون في كآبةٍ عميقة، وبما أنهم قد هيّئوا أنفسهم للسعادة لم يعد بوسعهم التعامل مع الشقاء.

كان والداي تعيسين جداً، لا يتبادلان أي عاطفة على الإطلاق، ويتجادلان طوال الوقت حول الأمور التافهة. لا زالت بعض مشاجراتهما محفورة في ذاكرتي. 
"يوماً ما سأقتل نفسي." كانت والدتي تقولها مسحوقةً تحت وطأة المشاكل العائلية وبكاء أخويّ الصغيرين. 
"حسناً، أخبريني في أي يوم؟" وتابع بكل ازدراء "في الأسبوع القادم عندي رحلة عمل وسأكون بعيداً عن المنزل ابتداءً من يوم الاثنين حتى الخميس."
"لقد أنهكَتني تلبية حاجاتك، سأختار اليوم الذي يلائمني ولا يمكنك التكهن به".
"لماذا لا يكون الجمعة؟ عندما تزورنا والدتك فتعتني بالأطفال."
"أكره أن تسدي لي والدتي معروفاً."
"لابد أن تعقدّي الأمور." ثم استدار بانتباه ليواصل قراءة الجريدة. 

لم تنتحر والدتي أبداً بطبيعة الحال، ولكن تهديدها الدائم سمم وجودنا العائلي وجعلنا تعساء، أنا وإخوتي.
ونتيجةً لذلك، كنت مراهقةً باردة تنأى عن شغف الصديقات اللاتي يتجولن باستثارة طوال اليوم وهنّ يفكرن بالمستقبل. يسعين خلف رجل أحلامهن بينما يخططن لإنجاب الأطفال الشقر، والتمتع بالإجازات الطويلة. كنت أفكر في بناء مستقبلٍ مظلم ومليء بالشر وسوء الطالع. إذا كان من البديهي أن للبشر قدرات أكبر تقودهم نحو الإخفاق بدلاً من العظمة، فمن المنطق أن يطور المرء تلك الموهبة عوضاً عن معاندة الفطرة. 

في صباي، عانيتُ من زواجٍ مروّع، مليءٍ بالتشتت والمرارة وسوء الفهم. كان زوجي مسئولاً عن حسابات المخبز وسرعان ما تم طرده بعد زواجنا بقليل، فاضطررت للعمل في تنظيف البنايات. لم يحضر الزواج أحد بالمناسبة، لأن عائلته وعائلتي كانتا تعارضان الزواج. ولكنه كان يؤيدني في عدم الحاجة إلى أن نكون سعداء. 

كان يفسر أفكاري بدقة عندما يقول إن السعادة ليست أكثر من وهم، مجرد مبدأ أو فكرة. ولكن الشقاء عبارة عن تجربة حقيقية، يمكنها أن تحدث ومن الممكن أيضاً تحسسها باليد.

لم نشعر بالرضا بعد إنجاب الطفلين، لقد نغصّا في الحقيقة حياتنا. فرّ الابن الأصغر من البيت عند بلوغه الخامسة عشر ولم نعرف عنه شيئاً حتى الكريسمس الماضي عندما راسلنا من سجنٍ في البرتغال طلباً للنقود. قال إنه عاش أسوأ سنوات حياته منذ هروبه قبل عشرين سنة وبالطبع لم نرسل له بنساً واحداً. أما الابن الأكبر فيعمل في الضمان الاجتماعي ويتنفس بصعوبة. يبدو أن لديه مشاكل في الرئة. هجرته زوجته العام الماضي تاركةً أطفاله الأربعة يلتقطون الأمراض المنتشرة. 

لقد أحرزنا إذن درجةً معقولة من الضجر والبؤس تقينا من إحباطات الحياة، وتهبنا شعوراً بالأمان لا يمكن الوصول إليه كما أوضحت مسبقاً إلا في العمق القاتم للجزع.

زوجي كان هشاً بطبيعته، وقد أنفق نصف حياته عند الأطباء، حتى جعلهم أخيراً يستأصلون إحدى كليتيه. كانوا قد استأصلوا مبايضي قبل سبعة سنوات، ومن المحتمل أن يستأصلوا المرارة أيضاً. بالطبع ما كنا لنفعل هذا لولا مساعدة ابننا الأكبر الذي يعمل في الضمان الاجتماعي ويعلم جيداً ما الذي يجب قوله للأطباء فهو حتى الآن قد جعلهم ينتزعون اثنين من أعضائه، ويحاول أن يقنعهم لكي يبتروا أصابع قدمه اليمنى وإذا ما نجح في ذلك سيتم تصنيفه كمعاق خصوصاً إذا ما تذكرنا أنه لا يتنفس جيداً.

كبرنا بهذه الطريقة بينما كانت الحياة -حادثة العدم- تحافظ على اتفاقها معنا. تقاعدنا الآن ونعيش في شقةٍ مظلمة مع قطةٍ لا نحبها. نصحو في وقتٍ متأخر فأرتب السرير بينما يذهب زوجي للسوق لأنه أفضل مني أو هكذا اعتاد أن يقول. ننام على الأريكة قليلاً بعد الغداء دون أن نطفئ التلفاز، ونتنزه في منتصف النهار أو نزور أحفادنا المساكين الذين تزداد أحوالهم سوءً يوماً بعد الآخر. وعندما نعود إلى الشقة نتناول بعض الخضروات ونصف قنينة من النبيذ ونجلس قبالة التلفاز حتى نغفو أو ينتهي البث. غالباً ما كنا ننام. 

في اليوم التالي كانوا سيعرضون فيلماً من زمننا القديم، أعددنا كل شيء للجلوس أمام الشاشة في الموعد المحدد. وفي أثناء الاستراحة أحضرت وجبةً خفيفة ثم تنشطنا وشربنا القليل من الكونياك الذي نحتفظ به للإجازات. وعندما انتهى الفيلم ذهبنا للنوم. كان زوجي يتناول أقراصاً منومة لذا نام على الفور ولكني بقيت مستيقظةً وشرعت أفكر بأني سعيدة بالفعل. قد تكون حياتنا بسيطة ولكننا لا نطلب المزيد. على سبيل المثال، أعجبني فيلم السهرة كما أني أحب تلك اللحظة التي نستلقي بها على السرير متعانقين بتلك الحكمة التي دفعنا ثمنها بتقدمنا في العمر. أحب رؤية زوجي وهو يعود من السوق معلقاً على أسعار الفواكه. كما أعتقد أنني بدأت أحب العناية بأحفادي عندما يعمل والدهم في النوبة المسائية. لقد نعمنا إذن بحياةٍ هادئة. 

لقد فاجئني هذا التجلي وحررني بطريقةٍ ما. لم أقل شيئاً لزوجي بالطبع ولكني أخذت أراقبه لأرى ما إذا كان قد حدث له ما حدث لي حتى تأكدت من ذلك. لقد كان ملائماً بالنسبة إلى وضعه، ويخلو من التناقضات الكبيرة.

وبعد أيامٍ ونحن على السرير أخبرته بما كنت أشعر، كما أخبرته بأني لاحظت فيه أيضاً بعض علامات السعادة. واختصرت كلامي باعتقادي أننا سعداء. 
" ماذا تقولين؟ هل تعتقدين بأن السعادة هي أن نناضل لسد رمقنا حتى نهاية الشهر؟ ماذا عن عدم وجود مصعد في العمارة؟ ولكنك لستِ من يذهب للتسوق .. "
" ولكن نحن في راحة، ودائماً ما نفعل الأشياء التي نحبها "
" وما تلك الأشياء؟ "
" حسناً، التنزه ومشاهدة التلفاز وتخيّل الأشياء."
" أي نوعٍ من الأشياء؟"
" النكات والتعاسة."
ثم أخبرته بنكات الأطباء الذين اخترعتهم ذلك المساء فضحك كثيراً ولكني لم أجعله يعترف بسعادتنا. يبدو أن الرجال أقل منّا قدرةً على تمييز هذه الأشياء*.

* ترجمة عبدالله ناصر

تعليقات

  1. تضاربت مشاعري ولا أستطيع تميز ما أشعر به ! إختيار موفق يا سيد عبدالله رائع ، لو هناك من أشاركه ..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..