الجندي أول مسفر


لو استطعنا النظر إلى المرآة التي يقف قبالتها مسفر لرأينا شاباً قد فرغ من ارتداء بدلته العسكرية وراح يعدل قبعته قبل الخروج إلى العمل. على كل كتفٍ شريطة، وهذه رتبة الجندي الأول وهي أعلى من رتبة الجندي الثاني وأقل من رتبة العريف. لكن مرآة خيال مسفر تعكس شيئاً آخر إذ يرى قبعته العسكرية صارت قبعة كاوبوي، وقميصه الأخضر الداكن صار قميصاً مزركشاً، حتى البسطار يبدو في عينيه حذاءً طويلاً من جلد الغزال، ومع أنه قد حلق ذقنه للتو بحرصٍ كما تُحلق العانة إلا أنها تبدو متسخة في مرآته، ويعزز المسدس من أوهامه فيدوِّره بسبابته كما لو أنه حلقة مفاتيح ثم يعيده إلى جرابه. 


وفي طريقه إلى العمل يتأمل مسفر البيوت والعمارات وناطحات السحاب فلا يرى غير أكواخ رثة تحمله على الأسى. يردد في سريرته: "هؤلاء الناس بحاجة إلى عمدةٍ آخر". يتوقف عند مقهى كوستا فيعبر بابه الزجاجي كما لو أنه باب حانة خشبي ويجلس وحيداً. لو شاء لأوقع في محبته سيدة شريفة -أو حتى ساقطة- ودمر حياته وحياتها. لكنه وقد علم يقيناً أن بقاءه حياً حتى الآن مرهونٌ بوحدته راح يعزي نفسه بقوله ما من بطل إلا وعاش وحيداً، فالوحدة قدر الأبطال. ينتبه إلى اللغط في الطاولة المجاورة فيتمالك نفسه. لا يجب أن يطلق النار وقتما يشاء، بل عندما يحين الأوان وإلا ما الفرق بينه وبين أي مختل؟


كان قد ذاع صيت الجندي مسفر بين أقرانه في معسكر التدريب بعدما أطلق أكثر من ألف رصاصة ولم يصب أي هدف. كانت رصاصات مسفر كلها طائشة. المسدس في يده آلة آمنة بل وموسيقية مثل آلة الهارمونيكا، حتى إن الحمام ما كان ليقطع قيلولته ويطير إلى غصنٍ آخر حين يخرج للصيد. ولو تحلّق حوله الأعداء في دائرة قريبة لما استطاع قتل أحد منهم كما لو أن سلاحه بلا ذخيرة. ما كان ليختلف منظرهم كثيراً عن أولئك الذين يتحلقون بسعادة حول لوحة مانيه "إعدام الإمبراطور ماكسيمليان". وهل يُخشى من بندقية في لوحةٍ قديمة؟ سخر منه الضابط في اليوم الأخير من الدورة التأسيسية وقد انتهى الجميع من جولة الرماية ما عداه، وغربت الشمس وكادت تشرق من جديد ولما يصب أي هدف. قال الضابط في يأس: "طيب، هل يمكنك أن تصيب أي شيء؟" وهكذا نقلوه من قطاع حرس الحدود إلى قطاع المرور علّ وعسى أن يساهم في تنظيم السير أو على الأقل في تحرير المخالفات المرورية. لكن مسفر يعزو الأمر في الحقيقة إلى سوء الحظ والمسدسات الجديدة. لو سلموه مسدساً قديماً من طراز كولت لما تردد في منازلة جون واين وكلينت ايستوود في وقتٍ واحد.


ولما خرج من المقهى وركب سيارته مرّ بجامعٍ كبير فبدا له مثل كنيسة، ولو ارتفع الأذان لسمع الأجراس وراح يحدث نفسه نادماً بعض الشيء: "ليس الآن وقد فات الوقت، لا عودة إلى الوراء أبداً، لا حياة مع القتل. الوشم يلازم صاحبه، ليس ثمة عودة". تسري في أذنه الموسيقى الشهيرة لموريكوني في فيلم "الطيب والشرير والقبيح" فيسوط سيارته حتى تعدو ويميل بها قليلاً إلى التراب حتى يثير الغبار وراءه. ما إن يصل إلى دوريات المرور حتى يخرج مباعداً ساقيه ثم يبصق على طريقة الكاوبوي قبالة النقيب الذي كان قد هدده في الأسبوع الماضي أن ينقله تأديبياً لو بصق مرةً أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حدائق السجن

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..