حدائق السجن


بينما أقرأ "وجبة المساء" لأندريه ميكيل إذ توقفت في كتابه الذي دوّن فيه يوميات السجن عند سطرٍ يبدي فيه أسفه على عدم حفظ الكثير من الأشعار. كان المستعرب الفرنسي قد سُجِن ظلماً في القاهرة بتهمة التجسس، مطلع الستينات إبان القطيعة المصرية الفرنسية بسبب حرب استقلال الجزائر. لا أقرأ أدب السجون في العادة، ربما لأنني قرأت منه ما يكفي، أو ربما للسبب نفسه الذي يمنعني من مشاهدة أفلام الرعب؛ لأحمي مناماتي إذ طالما حاولت عبثاً أن أتقدم على اللاوعي بخطوة حتى أقطع الطريق على الكوابيس. أميل إلى أدب الهروب لو وجد مثل هذا الأدب. الهروب من السجن مثلما فعل الكونت مونت كريستو أو أي هروب آخر، وإن لم أعد حالماً منذ زمن فالهرب اليوم لا يعدو أكثر من فكرة سينمائية. أعادني ذلك السطر الذي يتحسر على قلة المحفوظات الشعرية إلى رواية لإري دي لوكا كنت قرأتها قبل سنتين. كان البطل ممتناً لقصائد دانتي التي أُرغِم على حفظها في المدرسة إذ ستظهر منفعتها العظيمة لاحقاً حين يُزجّ في السجن فيدرك حاجته إلى التمارين اللغوية قبل الرياضية.
خطر في بالي حينئذ أن حفظ القصائد ادخار عظيم على المديين القصير والطويل. الخطة الأساسية أن نتجنب السجن بالطبع، لكن من يدري؟ تأتي لحظة لا يكون فيها أمام الإنسان ليحافظ على كرامته إلا أن يهاجم شرطيا كما يقول شتاينبك في "عناقيد الغضب". لا بد إذن من خطة احتياطية أو خطتين. نصف المساجين على الأقل لم يخططوا لقضاء الصيف هناك. فات أوان الحكم والمواعظ. الندم الآن هو المعلم. لكنهم قد يحتاجون إلى حكمةٍ أو حكمتين عن ضرورة الصبر والقصائد القديمة لا تخلو منها. في قصيدة ضابئ بن الحارث مثلاً عزاء كبير لكل سجين جديد، بل هي مما ينصح بترديده في الليالي الحالكة الأولى. كان ضابئ قد سُجنِ في عهد عثمان فراح يهوّن على قيّار بعيره أو حصانه الذي كان قد حبس أيضا، وهو بذلك إنما يهون على نفسه لتسلو، فإن لم تستطع فلتثبت، فإن وهنت فلا تجزع على الأقل. "فلا تجزعن قيّار من حبسِ ليلةٍ / قضيّة ما يقضى لنا فنؤوبُ / فلا خير فيمَن لا يوطّن نفسه / على نائبات الدهر حين تنوبُ". على أن ذلك السجين لا يجب أن يعرف مصير ضابئ الذي لم يخرج حياً من السجن.
ما كان مانديلا نفسه ليصمد في جزيرة روبن من غير استعادة قصيدة ويليم هنلي التي تدعو المرء ألا ينتحب، وأن ينصب رأسه الدامي فلا ينحني أبدا. ظل ماديبا يرددها طوال سبعة وعشرين عاما. لولا الشعر لسقط مثل حصان حصدوا ركبتيه بمنجل، وهذه الصورة البديعة لسركون بولص. على أن الشعر ليس للفؤاد الفارغ فذاك ليس له إلا الله، إنما يخفف الشعر من مشقة السجن كما يخفف الغناء من مشقة العمل.
لطالما كان الشعراء إخوان المساجين إذ تمتد منذ قرونٍ بعيدة أياديهم البيضاء مثل حبلٍ طويل ساعداً تلو ساعد، كفاً تلو كف، بناناً تلو بنان فتجتاز السور الحجري وبرج الحراسة وأنوف الكلاب وعيون البنادق وسيقان الحراس وبطن الزنزانة لتقف على رأس السجين فتسنده وتمضي بعدما تترك العشب الطري في تشققات قدميه. على أن الشعر ليس هذا فقط، فهو يتجاوز العزاء إلى أن يكون جوهر اللغة نفسها على رأي هايدغر، بل والفن أيضا.
الشعر، آخ منه، هو عندي من اللغة بمنزلة القحف من العظام. تحمي الدماغ والأعصاب وتحدد شكل الوجه، أي تحمي بذلك هويتنا في الداخل والخارج، وإذا ساعد السجناء في تحمل السجن، فإنه يساعد من هم في الخارج بالدرجة نفسها في تحمل الحياة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"ألا يا اهل الرياض اول غرامي".

في مديح التنورة القصيرة..