المشاركات

الأرضة التي ابتلعت بيتنا القديم

صورة
  أخيرًا أمسكت بالأرضة التي ابتلعت بيتنا القديم. ظللت أطاردها سنوات وسنوات بدأب فتى أقسم لأمه أن يطارد قاتل أبيه حتى آخر يومٍ في حياته. كلما خرجت للبحث عنها حاول إخوتي عبثًا إقناعي أن الجرافات هي من هدمت البيت. ما كانت الأمطار ولا العواصف لتمنعني من مطاردتها كل ليلة. رأيت الأرضة في طفولتي أول مرة حين فتحت خزانة الملابس الخشبية. كانت تجلس في زاوية الرف السفلي وقد بلغت من الجوع والتعب ما لا يجعلها تخاف أحدا حتى الموت نفسه. لقد صممت على أن تقضم ألياف الخشب ولو كانت تلك قضمتها الأخيرة. ما كنت لأقتلها آنذاك. تركتها ترعى في الخزانة ولو تركت ضبعًا هناك لكان أرحم. قدّرت لو أنها عاشت ألف سنة لما استطاعت أن تأتي على ذلك الرف! لم أنسها أبدا. كلما ضجت ذاكرتي بالصور القديمة وراحت تحذفها -كما نفعل في هواتفنا الذكية- استثنتْ صورة الأرضة وهي تغرز نابها الشرِه في ذلك الرف. احتفظت بصورتهالسببٍ ما طوال تلك السنين. وبينما أمسح الشوارع ليلة أمس بحثًا عنها إذ التمع من بعيد نابها ذاك مثل فص ألماس في الرمل. ركضت نحوها فلم تفزع مني حتى حملتها ورحت أضرب ظهرها لتبزق بيتنا القديم. حاولتْ الهرب وسرعان ما أدركت...

زيارة خاطفة لأحمد شوقي..

صورة
  كان في بيتنا الأول مكتبة صغيرة لونها رمادي كئيب. تقشّر طلاؤها فزاد من كآبتها، وتآكلت أطرافها الحديدية فمالت قليلًا إلى اليسار. كانت على الأرجح خزانة لمصلحة حكومية تُحفظ فيها سجلات الصادر والوارد، أو المواليد والوفيات. إذا أراد أحدنا أن يفتح المكتبة أو يغلقها لا بد أن يسدّ أذنيه كأنه سيفجر حزمة من الديناميت. كان لها صرير يشرخ الآذان والجدران. لا أدري كيف نجت من سوق الخردة، ثم فرّت من سوق الأثاث المستعمل حتى لاذت ببيتنا. الأرجح أن المستأجر السابق تركها خلفه. ملأها أبي بكتب الشعر والمعاجم. هناك لمحت أحمد شوقي أول مرة. لمحته مرةً أخرى على الطاولة الصغيرة المجاورة لسرير أبي، ثم رأيته وسمعته في كل زوايا البيت. كان أبي يؤمن بالتربية الشعرية وهكذا صار مؤدبنا هو شوقي. يوبخنا بأبياته ويواسينا، ولقد يقسو علينا ثم يصفح بعد ذلك ويعانقنا. وكانت حكايات الحيوانات قصصنا ما قبل النوم، ونسختنا الشعرية من كليلة ودمنة. أما مسرحياته فكانت أول شاشة ذكية نقتنيها في حياتنا. ولما كبرنا تفرّق عنه إخوتي وبقيت أزوره بانتظام في المكتبة فيسألني عنهم فردا فردا. حاول شوقي تعليمي الشعر عبثًا فأخبرني أن الإنسان إن...

جدّتي

صورة
رحم الله جدّتي. اعتمرتُ عنها صبيًا في رمضانٍ بعيد، ولما عدت وأخبرتها تباشرت وضحكت. تحسّستْ وجهي الصغير إذ كانت عمياء إلا قليلًا، ثم طبعت عليه قبلةً طويلة، واحتضنتني فغمرني الريحان -كأني أشمّه الآن- حتى كاد يخنقني. كانت جدّتي لأبي تحتفظ بشتلات الريحان اليانعة فتشمّ أزهارها البيضاء والبنفسجية بين الحين والآخر ثم تضعها إلى جانب وسادتها بجوار الراديو والأدوية. وكان الريحان في ذلك الزمن يعرف طريقه لمداخل بيوتنا -أين ذهب اليوم؟- فليس علينا إلا أن ننزعه قبيل الدخول ونقدّمه لها فتتنشقه حتى تخلع عنها سنواتها السبعين فتعود طفلةً بجديلتين طائرتين أو شابّةً بجديلةٍ باسمة. لقد كان الريحان في زمنها طيب المرأة. أما الرجل فكان يخرج بالعود والبخور ويعود بالعرق والسخام. وما كان ذلك يدعو إحداهنّ للقرف، بل لقد كان موضع تقدير لكدّ الرجل وشقائه إذ ما خرج من بيته لينعم بالظل والنسيم حتى لقد ذاعت كلمةٌ لإحدى العجائز تقول فيها: "ليس الرجل برجلٍ ما لم يكن مُشعِرًا ومُصِنًّا". العرق شهادة على ساعده العامل طيلة النهار أما الشَعر الغزير فلعله عائدٌ إلى الحدود الواضحة بين الجنسين في ذلك الزمن، أو لعله مزا...

الكلام بصوتٍ خافت

صورة
  غمزة الغمزة برقية إعجاب عاجلة. تُقرأ بلا كلمات وتُحرق في الوقت نفسه مثلما تُحرق الرسائل التي تهدد حياة حاملها. نبضة كهربائية تصعد من القلب إلى العين ثم إلى العين المقابلة لتنحدر في القلب فينبض مرتين. مزيجٌ من رمية حرة لكرة سلة وسقوط طفل من السطح إلى شبكة الإنقاذ التي يمسكها الجيران. غمزة واحدة فقط، ذلك أنها ابنة الحذر والزحام. عين مفتوحة وأخرى مغمضة. الثنائي الكلاسيكي؛ صانع اللعب والهداف، القبلة والشفتان، الأعمى والعصا، اللص وشريكه المراقب، الجندي ورفيقه الذي لا بد أن يغطي حركته تحت وابل من الرصاص. إن إخفاق أحدهما يؤدي بالضرورة إلى فشل الآخر. والغمزة لا تُردّ بالغمزة! إنما يفعلها المهربون بكشافاتهم على متن زورقين سريعين في عرض البحر، أو بأنوار شاحنتين رابضتين في شارع جانبي معتم. لكنها تُردّ برعشة صغيرة في زاوية الفم. لو فُحِصت بالمجهر لرأينا الضحكة الواسعة وسمعناها أيضا. تلويحة عناقٌ ثم نظراتٌ دامعة ثم تنطلق صافرة الرحيل. تتشبث المرأة بالرجل وتستبقيه قليلاً، وحين يتململ تفلته فيركض للحاق بالقطار أو الباخرة. يركب في اللحظة الأخيرة وحين يلتفت يجدها تلوِّح بيدها فيردّ التلويحة ويغيب...

كان فجرًا باسمًا

صورة
  هذه مشاركة عن أم كلثوم في عالم الكتاب. دعاني الصديق شريف صالح للكتابة في خمسينيتها، ولما هممت بالاعتذار كانت الستّ تغني "كل ليلة وكل يوم" في المذياع. قالت في عتاب: "بستنّى منك كلمتين مش أكتر". قلت أبعت كلمتين يطمنّوها على المحبة واحترت في أمر هاتين الكلمتين فلكل واحدٍ منا ما يقوله للستّ وما لا يود قوله. قلت مثل ما قال رامي كان فجرًا باسمًا في مقلتيّا. تبدو افتتاحية مناسبة لرواية حب لكنها تناسب العنوان أيضا. (كان فجرًا باسمًا) لم أعرف من الموسيقا في زمن الطفولة سوى اسمها. كانت أمي توصد دونها الأبواب فإن سقطت نغمةٌ آثمةٌ من التلفاز أو نغمتان سارعَتْ إلى كنسها خارج الصالة. لا موسيقا في هذا البيت تقول عصا المكنسة في يدها. أما أبي الذي كان يجيد العزف على أكثر من آلة موسيقية فقد انهمك في لعب الشطرنج مع الزمن الذي راح يجرده شيئا فشيئا من تجارته وأصدقائه وعافيته حتى صارت حاجته إلى حصان أو بيدق أكثر من حاجته إلى الموسيقا. وهكذا عاشت أذناي في البرية، في الهواء الطلق، على الفطرة. لا مدارس ولا كتاتيب حتى صادفتُ الستّ. كنت عندئذ قد بلغت سن المراهقة، ذلك السنّ الذي يجب على الفت...

نزهة مع الحوائط

صورة
  -١- طوبٌ متجاورٌ أو حجرٌ مصفوفٌ أو قالبٌ من الخرسانة ويكون الحائط. لا بد أولاً من حفر الأرض حتى نمُد جذور الحائط في التراب. كل ما يخترعه الإنسان في النهاية إنما يقتبسه من الطبيعة أو يحاكيها. ألا ترونه يرشّ الحوائط بالماء بعد الملاط كأنه يسقيها. حائط وحيد: سور، أو ظَهرُ حبيبٍ غضبان ما عاد احتضانه من الخلف آمنا. لو تعانقا لاندلع ماسٌ كهربائي. يبتعد الحبيب فتنمو على كتفيه الناعمتين لفائف الأسلاك الشائكة. تلتمع شفراتها مهددةً راحة اليد. متى صار غريبًا؟ لقد وقف قبالة الحائط في صباه. كان ذلك أول عقابٍ مدرسي؛ الوجه إلى الحائط. أكان ذلك في السنة الثانية أم في السنة الثالثة؟ يحاول أن يتذكر فلا تفلح الإغماضة ولا التقطيبة ولا الكزّ على الأسنان في تذكيره سوى بالشرخ الصغير في ذلك الحائط الأصفر. كبُر وتدرّج في العقاب والألم. من الوقوف إلى الحائط، فالوقوف على ساقٍ واحدة ورفع اليدين، حتى الضرب بالعصا. لقد احتملها بشجاعةٍ بل باستهتار لكنه لا يحتمل أن يمضي بعيدًا ذلك الظهر الغضبان. -٢- من منّا لم يلعب الكرة مع حائط بيتٍ مهجور؟ من يتذكر القارورة في ركنه الأيسر؟ لا يكاد يخلو منها حائط قديم. كلما كسر...

وتلفّتَتْ عيني..

صورة
  وُلِدتُ في الرياض. أمضيت طفولتي فيها وفي الدمام. قضيت سنوات الشباب في بلاد الشام. قضيت بعد ذلك سنوات في إنجلترا. لكنني عشت عمري أكثره في الدمام. إنها المدينة الوحيدة التي لي فيها صندوق بريد وأب ميت أخذني إلى البحر ليعلمني في طفولتي السباحة كما يعلم الحوت صغيره. ألقاني في الماء كما كان يفعل آباء ذلك الزمن فكدت أغرق. كان أبي يمضي بعيداً في لُجّة البحر حتى لا يُرى من الساحل. كم تخيلته يغرق في صباي، لكنه ظل يعود في كل مرة من قاع البحر. تعلمت من السباحة ما لا يجعلني أغرق، أو ما يجعلني أظن ذلك. كلما ركبت الطائرة اليوم وعبرت بحرا أو محيطا ارتعشت في مقعدي. هنالك ظن النفس بالنفس واقع كما يقول الشاعر. علمني أيضاً ألا أضيع في اليابسة. أن أنظر إلى النجوم فإذا غامت السماء أنظر إلى الرمال فأرى أين تجمعها الريح خلف الشجيرات لأعرف اتجاهي. علمني طول البال الذي يجب أن يتمتع به الصياد والطريدة على حد سواء. علمني أن أبقي باب البيت مفتوحا حتى لا يتردد العابر أو الغريب في الدخول. علمني أن الكرم إنما يكون في النفس قبل اليد، والوجه قبل المجلس، والحديث قبل الطعام. تعلمت تقريبا كل شيء في الدمام وأضعت هناك...